جرت انتخابات البلدية التركية، وكانت المعارضة تستهدف الحصول على الأغلبية حتى تستطيع أن تطالب بانتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة.
النتائج النهائية مثلما بدت، لن تسعف الحزب الجمهوري والمعارضة بالمطالبة بهذا الأمر، حيث حصل حزب العدالة والتنمية على المركز الاول بفارق 14% عن الحزب الجمهوري الذي حصل على 30% تقريباً من أصوات الناخبين، في حين حصل العدالة والتنمية على44% تقريباً، وحصل تحالف العدالة والتنمية مع الحركة القومية على 51.5%، فى حين حصل تحالف المعارضة الرئيس على 38.5% تقريباً.
ورغم استعمال المعارضة وأعداء تركيا الإقليميين والدوليين الأسلحة السياسية والاقتصادية كلها من أجل أن تحقق المعارضة الفوز المنشود، لكنها فشلت نتيجة وعي الشعب التركي.
ولم يخلُ وعي الشعب من معاقبة الرئيس أردوغان شخصياً، بإسقاط مرشحيه فى إسطنبول وأنقرة، وكذلك معاقبة الأحزاب التي تخلت عن مبادئها، فحصل حزب الجيد وحزب السعادة على صفر فى البلديات الكبرى، وكذلك خسر حزب الشعوب الديمقراطية الكردي نصف أصواته وبعض معاقله نتيجة تحالفه المستتر مع الحزب الجمهوري عدو الأكراد اللدود.
وقد حقق الحزب الجمهوري نتائج جيدة، لاسيما فى أنقرة وإسطنبول ( أياً كانت النتائج النهائية) ولكن ذلك حصل بعد تنازلات كبيرة وتلاعبات محتملة ومساعدة بعض الحمقى، ليبقى الفائز الأكبر هو الشعب التركي.
رغم تأييد الشعب التركي الرئيس أرودغان فى سياساته أغلبها، إلا أن هذا التأييد ليس تأييداً أعمى، فمتى أخطأ الرئيس فرك الشعب أذنه، هكذا تكون الشعوب الحرة، رغم حبها وإيمانها وثقتها فى رئيسه، لكنها تنبهه متى أخطأ.
وقد تقبل الرئيس هذا العقاب من الشعب، الذي تمثل فى خسارة حزب العدالة والتنمية لرئاسة بلديتي إسنبول وأنقرة، فقد كان المرشحان من اختيار الرئيس، الذى تدخل فى اختيار مرشحي الحزب فى البلديات الكبرى، رغم أن رئاسة البلديات يجب تركها لأعضاء الحزب فى نطاق هذه البلدية، وليس فرض أشخاص من خارج البلدية عليهم، مهما كانت كفاءتهم، وقد وضح ذلك فى هاتين البلديتين، فبالنسبة إلى بلدية أنقرة التي تضم 25 بلدية صغرى داخل نطاقها، فاز حزب العدالة والتنمية في 19 بلدية، وحصل حليفه الحزب القومى على 3 بلديات، فيما لم يفز الحزب الجمهوري إلا بثلاث بلديات.
كان العامل الحاسم هو شخصية المرشح، ففي حين اختار أردوغان محمد أوزهسكي رغم كفاءته وقدراته الإدارية، إلا أنه ليس خيار أعضاء الحزب فى أنقرة، وليس من أبنائها، إذ كان رئيساً لبلدية قيصرية مدة ثلاث دورات، ما يعني أنه جديد على العاصمة.
فى حين أحسن الحزب الجمهوري الاختيار عندما اختار منصور ياواش، فهو محام من أنقرة ترشح فيها فى المرتين السابقتين وخسر بفروق قليلة، كما أن خلفيته السياسية كانت قومية، وقد استفاد منها بأن أخذ أصوات الحركة القومية فى صفه بدلاً من ذهابها إلى مرشح العدالة والتنمية التى تحالفت معه الحركة القومية. وقد تكرر الأمر ذاته في إسطنبول؛ فعلى الرغم من كفاءة بن علي يلدرم، إلا أنه كان محسوباً على الرئيس، بل ويراه البعض دمية فى يده، ما جعله يخسر كثيراً من الأصوات.
وعلى الجانب الآخر، رشح الحزب الجمهوري أكرم إمام أوغلو، وهو شاب لبق استطاع أن ينفي عن نفسه تهمة محاربة الإسلام، حيث قرأ القرأن علانية فى بعض المحافل، ويعد السياسي الثاني بعد أردوغان الذى يفعل ذلك علانية.
ويضاف إلى ذلك الخطأ المتكرر من حزب السعادة الذى قدم مرشحاً لم يحصل إلا على 1.5% كانت خصماً من حزب العدالة والتنمية، لمصلحة مرشح الحزب الجمهوري، والدليل على أن عقوبة الشعب كانت لأشخاص، أن حزب العدالة والتنمية فاز في 24 بلدية في إسطنبول من أصل 39 بلدية، وخسر عن المرة السابقة بلديتين واحدة تنازل فيها لحليفه حزب الحركة القومية، والأخرى إسينيورت وهي ذات وضع خاص سنتناوله فى مقال خاص، فى حين فاز الحزب الجمهوري فى 14 بلدية بزيادة بلدية واحدة عن الانتخابات السابقة.
كان أهم ما يميز الانتخابات التركية، هو عدم التشكيك فى نزاهتها من جانب المشاركين فيها وكان الجميع يرضى بما يظهر من نتائج، و لكن ولأول مرة يحدث هذا التشكيك وبهذا القدر، وإذا ثبت ذلك سنكون أمام حادثة يجب معالجتها بكل حسم وحزم، لأن التهاون فيها سيفتح باباً واسعاً للتشكيك فى أي انتخابات مقبلة، كما أنه يعطي قدوة سيئة فى بقية مناحى الحياة ويفقد الثقة والاعتبار فى الدولة ورجالها، ويفتح باب التشكيك فى أي عمل وأي قيمة، ويؤدي إلى فشل الدولة وهو ما يحدث فى بلادنا العربية.
فى الحقيقة، أنا لا أستطيع الجزم بحدوث تزوير من عدمه، ولكن هناك ملاحظة وجدتها فى كل انتخابات جرت فى تركيا خلال فترة وجودي فيها، وأنا متابع جيد للانتخابات ونتائجها، كنت ألاحظ أنه فى بداية ظهور النتائج تكون الفروق بين مرشحي الحزب الحاكم أو ما يريده الحزب الحاكم فى حال الاستفتاء والمعارضة كبيرة، ثم بعد فرز نصف أوراق الانتخاب أو أكثر قليلاً تقل الفروق بمعدل شبه ثابت حتى نهاية الفرز.
وقد وجدت تفسيراً مقبولاً فى الانتخابات البرلمانية والرئاسية والاستفتاء على الدستور، وهو أن الفرز يبدأ فى ولايات شرق ووسط تركيا، وهي معاقل الحزب الحاكم قبل ولايات غرب تركيا وهي معاقل الحزب الجمهوري بحوالى ساعة، ولكن فى الانتخابات البلدية الأمر مختلف حيث يبدأ الفرز فى الولاية فى وقت واحد، ولا تسبق منطقة منطقة أخرى في الفرز فى الولاية نفسها، وبمتابعتي للفرز فى الانتخابات البلدية فى الولايات الثلاثة الكبرى إسطنبول وأنقرة وإزمير، وجدت الظاهرة تتكرر وبنسب محددة وبرتابة، حتى أني توقعت خسارة مرشحي حزب العدالة والتنمية قبل نهاية الفرز فى أنقرة وإسطنبول، أما فى إزمير معقل العلمانية والحزب الجمهوري فكان الفارق -الذى بدأ ضيقاً لمصلحة مرشح الحزب الجمهوري- يتسع مع قرب نهاية الفرز. ويصعب تصور حدوث ذلك وتكراره، إلا فى وجود نوع من التزوير الممنهج، يقوم به عدد غير قليل من مسؤولي لجان الفرز.
وبحكم خبرتى السابقة فى مصر بحضور فرز انتخابات شتى من انتخابات محلية إلى برلمانية، مروراً بالانتخابات النقابية، فإن التزوير فى هذه الحالة، إما أن يتم فى حساب الأصوات وجمعها فى اللجان الفرعية أو يتم بإبطال أصوات أحد المرشحين، أو يتم بتبديلها حين يملي رئيس اللجنة على مساعده نتيجة كل صوت فيملي طبقاً لأغراضه لا طبقاً لما هو موجود فى أوراق التصويت، وهذا يمكن كشفه بسهولة بإعادة الفرز، ماعدا إبطال أصوات أحد المرشحين لأنه يحدث تغييراً مادياً فى بطاقة التصويت، فبدلاً من اختيار الناخب مرشحاً واحداً فى البطاقة، يؤشر المزور أمامه باختيار آخر أو أكثر فيبطل الصوت. وإذا ثبت هذا؛ فلابد أن يكون بترتيب وتواطؤ عدد كبير جداً من رؤساء اللجان الانتخابية، ومعاونيهم وبتنسيق من الحزب الذى جرى التزوير من أجله.
ورغم أني كنت وما زلت أتمنى فوز حزب العدالة والتنمية فى إسطنبول وأنقرة، إلا أن ثبوت التزوير على هذا النطاق الواسع سيفسد الحياة السياسية فى تركيا، ويفقد المصداقية فى العملية الانتخابية، ويؤثر بالسلب أكثر على تركيا من تأثير خسارة حزب العدالة والتنمية لرئاسة البلديتين.
عذراً التعليقات مغلقة