شريعة رائعة، لا نظير لأحكامها، تنزيل من حكيم حميد، أعظم ما في أحكامها من وجوب وندب وإباحة وحرمة وكراهة ومراعاة الفطرة الإنسانية، فالإنسان في حقيقته مجموعة غرائز تتحرك على الأرض، من حرية واختيار وتنوع وملكية وحب بقاء وشهوات من نساء وبنين، إلى غير ذلك من غرائز مركوزة ومحفورة في طبيعة وكينونة الإنسان، ولن تجد تكليفاً بالطلب أو الترك إلا ويراعي الشارع الحكيم الغريزة ويؤكدها ولا يهملها أو يقصيها أو ينسفها، “ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير”، “صنع الله الذي أتقن كل شيء”، “صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة”.
ولو تتبعنا كل تشريع بالطلب على حدة، لوجدنا فيه من المصالح والمنافع الكثيرة التي تعود علي الإنسان بصفته إنساناً، وكذا كل تكليف بالترك يدرأ عنه المضار والمفاسد التي لا حصر لها. والعلماء قسموا الواجب الشرعي إلى تقسيمات عدة باعتبارات مختلفة، أغلبها وأشهرها:
فمن حيث التعيين والتخيير ينقسم الواجب إلى واجب معين ومخير، والواجب المعين ما كان التكليف فيه بواحد معين لا اختيار في تركه، وذلك مثل الصلاة والزكاة والصيام والحج، فالبالغ العاقل الذي ليس لديه مانع من موانع التكليف تجب عليه الصلاة والزكاة إن ملك نصاباً وحال عليه الحول، والصيام، والحج لمن استطاع إلى ذلك سبيلا، وكلها أمور معينة لا اختيار للإنسان المكلف فى تركها.
أما الواجب المخير فهو ماكان التكليف فيه بواحد غير معين من أمور معينة، وذلك مثل كفارة اليمين، فالواجب فيها واحد مبهم من أمور معينة، وهي الإطعام أو الكسوة أو العتق، فالثلاثة ليس واجبة، وإنما الواجب أحدها لا بعينه، وأيضاً مثل أسرى الحرب، فالإمام مخير بين القتل أوالفدية أو المن عليهم وإخلاء سبيلهم أو الرق، فالواجب واحد من الأربعة، صحيح كل واحد من الأربعة يصح وصفه بالوجوب، لكن الواجب منها عند الأداء واحد فقط، فالتنوع والاختيار واضحان تماماً في الواجب المخير، وفيه مراعاة جانب فطري لا ينفك عن طبيعة الإنسان ألا وهو الحرية والاختيار من بين أمور متعددة، كل مكلف يختار الأنسب والأصلح له، ولم يجعل الشارع الحكيم الواجب على نمط واحد في التكليف لئلا تحصل المشقة غير المعتادة التي قد تسبب للإنسان حرجاً وضيقاً.
حتى الواجب المعين الذي لا تخيير فيه يسقط عن المكلف في حالة الضرورة أو عدم الاستطاعة، فالصيام يرفع عن المريض والمسافر لما فيهما من مظنة المشقة، والزكاة لا تجب إلا على الشخص الذى ملك نصاباً وحال عليه الحول، وكذا الحج لا يجب إلا على المستطيع مالياً وبدنياً مع أمن الرفقة والطريق، والصلاة لا تسقط أبداً ولها أحكامها الخاصة بها، فالتكليف ليست غايته الاستعباد والاستبداد بالإنسان، قدر مراعاته تهذيب النفس وسموّها، واعتدال الفطرة ووسطيتها في غرائزها، وإخراجها من طاغوت نفسها إلى التشرف بعبادة ربها.
ومن حيث الوقت ينقسم الواجب إلى مطلق ومقيد، والواجب المطلق هو الذي لم يحدد الشارع الحكيم وقتاً له، وإنما ترك تحديد وقت الأداء للمكلف نفسه حسبما يرى وقتاً مناسباً يؤدي الواجب فيه، ومن أمثلته قضاء الصيام لمن أفطر وعنده رخصة للفطر، فالمرأة – مثلاً- التي أفطرت في نهار رمضان بعذر الحيض، يجب عليها قضاء هذه الأيام التي أفطرتها، لكن الشارع الحكيم لم يحدد وقتاً معيناً للقضاء، وإنما ترك ذلك إلى اختيارها وحريتها، بحيث لاينقضي العمر الممكن إلا وتكون قد قضت ما عليها من واجب.
وأما المقيد فقسمه العلماء إلى قسمين؛ مضيق، وهو الذي يكون الفعل المطلوب أداؤه علي قدر الزمن تماماً، فالفعل والزمن متطابقان، ومن أمثلة ذلك صيام رمضان، فالفعل وهو الإمساك عن شهوتي البطن والفرج بنية التعبد بالصيام، يستمر في الزمن المخصص شرعاً من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، فالفعل هو الإمساك، والزمن المحدد الإمساك فيه على قدر بعضهما، بحيث لا يجوز الإفطار قبل نهاية الزمن وهو الغروب، ولا الإمساك بعد نهايته.
وأما الموسع فهو الذي يكون الزمن فيه أوسع من أداء الفعل، فمثلاً الفعل يحتاج أداؤه إلى عشرة دقائق ويأتي الشارع ويعطيه من الوقت ثلاث ساعات، يختار المكلف أي الأوقات يكون مناسباً له أولاً أو وسطاً أو آخراً، لاجرم ولا إثم ولا معصية عند اختيار الأداء فى وسط الوقت أو في آخره. فمثلاً يبدأ وقت صلاة الظهر الساعة الواحدة ظهراً ويمتد إلى الرابعة أول بداية صلاة العصر، فالوقت ثلاث ساعات، وأداء الصلاة لا يزيد عن ثلث ساعة غالباً، فمن صلى في الساعة الواحدة يكون مؤدياً للصلاة، وكذلك من صلى في الساعة الثالثة يكون مؤدياً للصلاة، المهم ألا يخرج من الوقت المحدد شرعاً إلا ويكون قد صلى، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: “الصلاة لوقتها”، “والوقت ما بين هذين”؛ أي ما بين بدايته ونهايته تصح الصلاة فيه وتوصف بالأداء.
وبناء عليه أنت ترى مدى ما تركه الشارع من حرية في اختيار الوقت الذي يؤدَّى فيه الواجب حسب قدرة المكلف ونشاطه وعلو طاقته وهمته، فالمسألة ليست طقوساً تُؤدى بلا فهم وتعقل، وإنما أداء الراحة والسعادة، وهذا جلي الظهور في الواجب المطلق، حيث المكلف يختار الزمن المناسب في نشاطه وقوته وعلو همته، وواضح أيضاً فى الواجب الموسع بنسبة تجعل المكلف في حيز الاختيار، بخلاف المضيق الذي يكون التكليف فيه في الوقت الذي حدده الشارع، ولا تظهر فيه حقيقة الاختيار، وهو قليل في التشريع سواء فى العبادات أو المعاملات بالنسبة إلى ما فيه الاختيار.
Sorry Comments are closed