دخلتُ قاعة محكمة الجنايات لحضور جلسة محاكمة لموكلي الذي تم جلبه من السجن المركزي بحمص برفقة موقوفين آخرين لحضور محاكماتهم.
جلستُ أشاهد وأنتظر انتهاء إجراءات القضية التي تسبق قضية موكلي. وعندما نادى آذنُ المحكمة على المتهمين زهري وفكري، تقدّما من جدار القفص الحديدي المواجه لقوس المحكمة، بالكاد سمع الحاضرون صوتيهما يقولان: حاضر سيدي.
قال القاضي للمتهم زهري: هل تؤيد أقوالك أنت وشقيقك فكري بقتلكما المغدورة عزيزة؟
لم يُجيبا شيئاً وتوجّه نظرهما نحو جهة ما حيث يجلس الحاضرون، كرر القاضي سؤاله لهما.
فقام من الجهة التي نظر إليها المتهمان رجل في حوالي منتصف العقد الخامس من عمره وشرع يقول بصوت غاضب ومؤثر ومجروح:
– نعم سيدي القاضي، هما من قتلا زوجتي عزيزة (الله يرحمها) طعناً بالسكين، وذلك حين أرسلتهما لإيصال بعض الحاجيات للمنزل، وحين فاجأتهما المرحومة قد دخلا غرفة مكتبي بقصد السرقة، وهددتهما بإخباري بالأمر قاما بقتلها، أعدمهما يا سيدي أعدمهما..
هذا جزاء معروفي يا سيدي القاضي “صار لي مشغلهم عندي ثلاث سنوات وأعاملهم مثل أولادي” أشفقتُ عليهما لأنّ أبوهما مشلول وعاجز عن العمل وهو صديقي منذ الطفولة وأمهما مريضة بالقلب، ووضعهم فقير جداً، وتكفلتُ بعلاج الأم على حسابي ولولا فضل الله كانوا ماتوا من الجوع.
ولفت انتباهي أن القاضي وهو المكلّف بحفظ النظام والهدوء وعدم السماح لأحدٍ أن يتكلم إلا بإذنه لم يمنع الزوج من الحديث ،ولم يذكّر المتهمين زهري وفكري بأقوالهما أمام قاضي التحقيق بالرغم من أن الجرم جناية قتل، وذلك يعتبر مخالفات قانونية جسيمة لا تحصل إلا إذا كان في الأمر محاباة لأحد الأطراف ذوي الحظوة، كما شاع عليه التعامل في محاكمنا ويبدو أنه الزوج المجروح. ولفت انتباهي أن المتهمين لم يبدوا شريرين، بل تتضح من وجهيهما ملامح الطيبة والبساطة.
ثم كرر القاضي عليهما السؤال، فقالا معاً: مثل ما قال معلمي سيدي.
وبعد انتهاء إجراءات المحاكمة، رفع القاضي الدعوى للمداولة وإصدار الحكم.
بعد يومين ولدى وجودي في السجن المركزي لزيارة أحد الموكلين للاستيضاح عن بعض الوقائع بشأن قضيته، وبعد الانتهاء مما جئت له، تفاجأتُ بوجود المتهمين زهري وفكري يجلسان مع الزوج المكسور القلب وبرفقتهم محامٍ أعرفه بحكم الزمالة، وهنا همس موكلي في أذني: هل تعلم يا أستاذ أنّ هذين الشابان بريئان لم يقتلا ولم يؤذيا أحدا؟
فقلتُ كمن وجد شيئاً يبحث عنه: هل تعرفهما من قبل؟
قال موكلي: أنا من يعرفهما.. هما من أهل حارتي، وصار لنا في السجن منذ سنة في مهجع واحد معاً، ولقد رَوَيا لي حقيقة قصتهما، وهما دائماً حزينان كئيبان ومنزويان لوحدهما في السجن، وأضاف: هذا الرجل الجالس قربهما (وأشار إلى الزوج) إنه مليونير وهو تاجر كبير ومعروف ولذلك فهو ذو حظوة عند المسؤولين في البلد ويده واصلة في أي مكان، والتوأم زهري وفكري يعملان عنده في مكتبه منذ ثلاث سنوات، وحالتهما المادية بائسة جداً وأبوهما سقط من الطابق الرابع خلال العمل وأصيب بالشلل الكامل فانقطع مورد رزق العائلة، وكان معلمهما التاجر هو المنقذ من هذا الحال فعمل التوأم عنده، وأكرمهما وتكفل بعلاج الأم التي تشكو من القلب وكما قالا لي أن معلمهما كريم ورؤوف بهما، إلا أنه كان على علاقة مع زوجة صديقه وشريكه القديم، حيث كان يتردّد إلى بيتها في الليالي التي يغيب فيها صديقه عن البيت بقصد تخليص بضائع من مرفأ اللاذقية، وحين اكتشفت زوجة معلمهما تلك العلاقة هدّدته بفضحه وبإخبار شريكه، فقام بطعنها بسكين فماتت.
وخوفاً منه على تجارته وسمعته بين الناس، قام بالضغط على هذين الشابين ليعترفا بالقيام بقتل زوجته بحكم سلطته عليهما وبحكم معروفه المستمر على والديهما وعليهما، وأنهما سيفقدان عملهما وعطاءه وكرمه وسيحلّ بوالديهما الضرر الكبير إن هو سُجن، ووعدهما بتوكيل محاميه الشاطر للدفاع عنهما ولتخفيف العقوبة، وبأنه سوف يسقط الحق الشخصي عنهما باعتباره الزوج، وسيتكفل بوالديهما خلال مدة السجن وسيضاعف لهما الراتب ومصروف السجن.
وهنا تناهى إلى مسمعي عبارة هامسة فرّت من فم الزوج الجالس على المقعد المجاور وهو يقول للتوأمين: “أنتو بس خليكم على كلامكم والباقي عليّ لا تخافوا”.
وفي موعد جلسة النطق بالحكم ،كانت هذه الطبخة القانونية قد أُنضجت بمعرفة الطهاة الثلاثة الزوج المسكين والمحامي الشاطر والقاضي الشيف، وتمّ رشُّ ما يلزم لها من بهارٍ ومال.
نُوديَ على المتهمان، ونبههما القاضي بضرورة الوقوف لسماع الحكم احتراماً للعدالة.
ثم أصدرت المحكمة الحكم التالي:
باسم الشعب
قررت المحكمة بالإجماع مايلي:
تجريم المتهمين زهري وفكري بجناية قتل المغدورة عزيزة قصداً والحكم عليهما من حيث النتيجة بالحبس بالأشغال الشاقة لمدة 20 عاماً.
ونظراً لإسقاط الزوج حقه الشخصي تُخفّض العقوبة حتى سبع سنوات ونصف.
وإثر انتهاء المحاكمة مشيتُ بالقرب من الزوج خارج القاعة متظاهراً بالتحدث مع زميلٍ لي، وبحركةٍ خفيفة أخرج جوّاله واتصل:
سمعته يقول بلهجة المنتصر:
“ألو حبيبتي أخيراً خلصنا من هالقصة، انتِ جاهزة الليلة؟”.
عذراً التعليقات مغلقة