تمتلئ عينا المعلمة الجزائرية عائشة بن يوسف، بالدموع كلما سألها أحد الأقرباء عن ابنها أسامة القابع في سجن ألماني لاتهامه بانتحال صفة لاجئ سوري، خلال إقامته في مخيم بمدينة دورتموند (شمال ألمانيا)، إذ ترك أسامة دراسته بكلية العلوم الاقتصادية في جامعة الجزائر 3، وتوجه إلى فرنسا بتأشيرة سياحية ومنها عبَر إلى ألمانيا، بعد أن ترك كل وثائقه عند أحد معارفه في باريس، وفي مخيلته حياة أخرى بعيدا عن هاجس البطالة وضغوط الحياة الاجتماعية في بلده.
مطاردة الحلم
في مكالماته الهاتفية، اعترف أسامة لوالدته، بانتحال الجنسية السورية لحظة دخوله إلى الأراضي الألمانية، حيث وصل إلى مدينة دورتموند التي استقر في أحد مخيماتها وحصل على منحة تقدر بـ300 يورو مخصصة للاجئين. غير أنه انتقل إلى مخيم آخر على أمل الاستفادة من منحة جديدة بنفس القيمة، لكن أمره انكشف وتم إيداعه السجن وانقطعت أخباره عن العائلة منذ 10 فبراير/شباط الماضي. وبسبب الخشية من ترحيل ابنها مجددا إلى الجزائر، وإجهاض حلمه بالاستقرار في أوروبا، قامت عائلة أسامة بالتواصل مع محام ألماني، أبلغهم بأن ابنهم مهدد بالسجن عامين في ألمانيا وتخزين بياناته إلكترونيا ضمن قائمة الممنوعين من دخول ألمانيا، حتى لا يتمكن من العودة مرة لاحقة، طبقا للمادة 11 من قانون الإقامة الألماني.
وبحسب إحصائية موثقة حصلت عليها “العربي الجديد”، عبر وزارة الداخلية الألمانية، فإن أسامة ليس بمفرده، إذ وصل خلال عام 2015 إلى ألمانيا 26000 لاجئ تقريبا من بلدان المغرب العربي، من بينهم 14 ألفا من الجزائر، وبلغ عدد المطلوب منهم المغادرة حتى نهاية العام الماضي 6100 لاجئ من دول المغرب العربي جميعا، بينما تم ترحيل 135 شخصا منهم فقط حتى الآن، وتكشف الإحصائيات أن نسبة الجزائريين ممن تم قبول طلبات لجوئهم العام الماضي من بين إجمالي الواصلين إلى ألمانيا من دول المغرب العربي، تبلغ 1.7% من إجمالي مقدمي طلبات اللجوء المغاربيين.
وحتى نهاية يناير/كانون الثاني من العام الجاري، بات مطلوبا من 2631 جزائريا، المغادرة إلى بلدهم، وهو ما نتج عنه سجن جزائريين في سجون ولاية برانورج وسكوسونيا وبافاريا، بعد انكشاف انتحالهم الجنسية السورية، بحسب تصريح خاص من منظمة برو أزول الألمانية غير الحكومية، والتي تُعنى بحماية حقوق اللاجئين. وتؤكد المنظمة لـ”العربي الجديد”، “أن تحديد عدد الجزائريين القابعين في كل من هذه السجون بدقة، أمر مستحيل، نتيجة حرص المعنيين على عدم كشف هوياتهم من خلال إتلاف جميع وثائقهم وادعاء بعضهم أنهم مغاربة”.
تجهيزات رحلة العبور إلى أوروبا
لكن كيف يجهز الجزائريون أنفسهم من أجل رحلة اللجوء عبر استغلال الورقة السورية؟ يجيب الشاب الجزائري بوراس سيف الدين، على سؤال مُعد التحقيق، قائلا بحماسة بالغة في لقاء مع “العربي الجديد”، في مسكنه الواقع بحي “القصبة” في قلب مدينة قسنطينة (400 كلم شرقي الجزائر)، “سافرت إلى تركيا بطريقة شرعية ومنها تسللت إلى اليونان، ونجحت في بادئ الأمر في العبور من جزيرة ميتيليني اليونانية إلى أثينا بوثائق مزورة (وثيقة تمنح للمهاجرين ممن دخلوا اليونان بشكل غير شرعي وتسمح لهم بالبقاء مدة 6 أشهر)، تم تسجيل اسمي على أني شخص سوري اسمه عصمان أبو عمر، حصلت عليها من سمسار جزائري بـ150 يورو”.
أفشلت مترجمة سورية ترافق الشرطة اليونانية، حلم سيف الدين بالاستقرار في الضفة الأخرى للمتوسط، إذ لم يستطع إثبات أنه سوري، لدى ضبطه على الحدود اليونانية المقدونية، وتم كشف تزوير الوثائق الخاصة به، لتنتهي رحلته في سجن الأجانب بتركيا، والذي تم ترحيله إليه من اليونان ليقضى فيه أيامًا وصفها بـ”السوداء”.
5 أسئلة تحدد مصير اللاجئين
خلال رحلته، رافق سيف الدين صديقه بوغرارة أحمد، والذي ينحدر من مدينة قسنطينة، يقول أحمد في شهادته لـ”العربي الجديد”، “بعدما سار كل شيء على ما يرام من الجزائر إلى تركيا، ومن ثم العبور إلى جزيرة ميتيليني اليونانية ومنها إلى العاصمة أثينا، انتهى حلمنا على الحدود اليونانية المقدونية، وتم التحقيق معنا من قبل الشرطة اليونانية، بحضور مترجمة سورية، طلبت أن نذكر كلمات النشيد الوطني السوري، وأن نعطيها مساحة البلد وعدد سكانه، ومن كان الرئيس قبل بشار الأسد، ومميزات لوحة ترقيم السيارات في سورية. بالطبع لم نجب، فتم كشف انتحالنا للجنسية السورية. بعدها أُحلنا إلى مركز إيواء يوناني، عوملنا فيه بشكل أفضل بكثير من السجن التركي”.
الإفلات من الترحيل والحصول على اللجوء
توصل مُعد التحقيق، إلى جزائريين وصلوا إلى أوروبا بادعاء أنهم لاجئون سوريون، من بينهم صالح براي، البالغ من العمر 27 عاما، والمنحدر كذلك من قسنطينة. يقول براي “قبل تحقيق الشرطة اليونانية معي تخلّصت من الوثائق، كما لم يكن المترجم من جنسية عربية، تكلمتُ بلهجة عربية فصيحة أقرب إلى السورية، فحصلت على أوراق صحيحة في ثوان، ومن خلالها كنت أتحرك بكل حرية في اليونان، كما رافقت اللاجئين السوريين في رحلتهم إلى ألمانيا التي أتواجد بها منذ أشهر”.
شاب آخر ينحدر من شرق الجزائر، رفض ذكر اسمه لتواجده في اليونان بانتظار فرصة العبور إلى ألمانيا، يكشف في اتصال هاتفي مع “العربي الجديد”، سر نجاح خطته بقوله: “حفظت كل شيء يتعلق بسورية، ظللت أتكلم بلهجة شامية، ولم يتمكن المترجم اللبناني من كشفي”، وذكر الشاب أن أحد أصدقائه كان لديه حَوَل في عينيه، ونصحه بعض العارفين بادعاء أنه تعرّض لهذه الإصابة في الحرب السورية. وبالفعل نجح مسعاه وحصل على أوراق صحيحة، وينتظر هو الآخر الانتقال إلى ألمانيا.
3 أسباب دفعت الجزائريين لانتحال الجنسية السورية
يرى المحامي الحقوقي عمار خبابة، أن ظاهرة انتحال الجزائريين الجنسية السورية مثيرة للسخرية، “إذ إن المهاجرين من الدول العربية في حقبة التسعينيات كانوا ينتحلون الجنسية الجزائرية لتفادي الترحيل، بسبب تصنيف الدول الأوروبية الجزائر بلدا غير آمن، وقت العشرية السوداء، قبل أن يأتي الدور على سورية اليوم”.
وتُرجع الحالات التي التقاها مُعد التحقيق، انتحال الجزائريين للجنسية السورية، إلى البطالة بالدرجة الأولى، ومن هؤلاء بوراس سيف الدين: “لا يوجد عمل، توظفت 3 سنوات بعقد مؤقت (ما قبل التشغيل) مقابل 8 آلاف دينار (70 دولارا) شهريا، حاولت تحسين ظروفي مثل غيري من أبناء الحي ممن استقروا في ألمانيا”.
أما صالح براي، المتواجد في ألمانيا، فيقول إن حلم بلوغ أوروبا بأي طريقة جعله يهتدي إلى هذه الطريقة، مشيرا إلى أنه غير نادم على ذلك، ولو استدعى الأمر سيفعلها من جديد. ويعود صالح إلى الظروف التي كان يعيشها في الجزائر، إذ لم يكن يجد مصروف جيبه نتيجة فقر عائلته، مما اضطره إلى التوقف عن الدراسة مبكرا والعمل على تحسين ظروف عائلته الاجتماعية، غير أنه مع مرور السنوات اقتنع بأن الهجرة هي الحل الوحيد للتخلص من الفقر.
ويقول براي إنه تعرّف على جزائريين رافقوه إلى أوروبا من مستويات اجتماعية مقبولة، غير أنهم قرروا الهجرة إلى أوروبا بطريقة غير شرعية بحثا عن رفاهية أكثر، وهو ثالث دوافع الجزائريين للهجرة بعد البطالة والفقر.
السلطات الجزائرية ترفض التعليق
تواصل مُعد التحقيق مع الناطق الرسمي للخارجية الجزائرية، عبد العزيز بن علي الشريف، والذي رفض الخوض في الموضوع قائلا: “ليست لديّ تفاصيل أو معلومات تخص جزائريين خارج الحدود متهمين بانتحال صفة لاجئين سوريين”، كما أن عدم تبليغ عائلات المعنيين الجهات الرسمية، يجعل إحصاء هذه الفئة محل صعوبة كبيرة”، غير أن والدة أسامة بررت ذلك بتجنيبه خطر الترحيل ووضعه في قوائم الممنوعين من دخول أوروبا.
برلماني: الدولة لا تدافع عن المتنكّرين لجزائريتهم
يدافع ممثل الجالية الجزائرية المقيمة في أوروبا وعضو البرلمان الجزائري، عبد القادر حدوش، عن الدور الذي تقوم به السفارات لحل مشاكل الجزائريين في الخارج. وينفي البرلماني عن جبهة التحرير الوطني (الحزب الحاكم)، بالمقابل، أي مسؤولية للدولة عن “الورطة” التي يقع فيها منتحلو الجنسية السورية، قائلا في تصريحات خاصة لـ”العربي الجديد”: “الدولة لا يمكن أن تدافع عن من تنكّر لجزائريته، ولم يبلّغ أهله السلطات داخل الجزائر أو السفارات المنتشرة في أوروبا عن وضعيته”.
على العكس من ذلك، يستنكر الحقوقي خبابة تلك التصريحات، قائلا لـ”العربي الجديد”: “الهوية ليست ورقة تُسلم للرعية أو المواطن، بل هي حقوق وواجبات، وعلى رأسها حماية الدولة لرعاياها في الخارج، ومن واجب الدولة فتح الملف والتقصي في السجون الأوروبية ومخيمات اللاجئين عن الجزائريين”. واستدل الحقوقي خبابة على التقصير الحاصل بالعراقيل التي واجهته في تأسيس جمعية حقوقية تُعنى بالدفاع عن الجزائريين الموجودين في حالة خطر في الخارج، إذ اصطدم بقيود عديدة تضمنها قانون الجمعيات الصادر في 2012، ما أدى إلى تجميد المشروع الذي عمل عليه مع عدد من البرلمانيين ممن يحاولون مساعدة الجزائريين الذين يعرّضون أنفسهم للخطر بحثا عن الاستقرار في أوروبا.
* تحقيق – محمد رابح، محمد خالد شرفي
الجزء الأول من تحقيق خاص أجراه موقع “العربي الجديد”
عذراً التعليقات مغلقة