بقلم: عبد الكريم بدرخان
كالبحر في سِعَته وعُمقه وتنوُّع لآلئه، وكنسيمِ البحرِ في لُطفه ودماثته وخفّة ظلّه. لو تكلَّم سبعَ عشرةَ ساعةً؛ لما ملَلْتَ منه، ولو قرأتَ كلَّ ما خطَّـتْه يدُهُ… لفاجأكَ كلَّ يومٍ بـبِدْعٍ جديد.
حـنّـا عـبُّـود.. رحلةُ ثمانينَ عاماً في بحارِ الأدب والنقد والترجمة والفكر، خاضها بحنكةِ أوديس تارةً، وبنَـزَوَاتِ باريس طوراً. منذ مولده في قرية القلاطيّة الصغيرة في ريف حمص الغربي عام 1937، إلى طفولته في الميتم الأرثوذوكسيّ في حمص، ثم شبابه الجامعي والسياسيّ، وصولاً إلى بصمَته في حقل التعليم التي ما زال بعضُ تلامذته يذكرونها حتى اليوم. وفوق كُلِّ ذلك، رحلةُ المترجم الغزير والناقد الـمُـتفرّد.
تنوّعتْ ترجماتُ الأستاذ حنّا (التي جاوزت الـ 60 أو 70 كتاباً) ما بين كلاسيكيّات الأدب العالمي مثل “الإلياذة” و”الأوديسة” و”الإنياذة” و”الفردوس المفقود” و”الكوميديا الإلهيّة” وغيرها، والأعمال الفكرية والفلسفية مثل: “بؤس الفلسفة” لماركس، “العائلة المقدّسة” لماركس وإنجلز، “الاشتراكية الخيالية في القرن التاسع عشر” لـ بليخانوف، “موجز تاريخ الفلسفة”، “العلوم الاجتماعية”، “صراع الأفكار في العصر الحديث” وغيرها. كما ترجم في دراسات الأسطورة: “يوم كان الربُّ أنثى” لـ مارلين ستون، “ميثولوجيا الأبطال والآلهة والوحوش” لـ برنارد إيفسلن، “الميثولوجيا” لـ إديث هاملتون، وغيرها. وترجم في النقد الأدبي: “المسرح: ثلاثة آلاف سنة من الدراما” لـ شلدون تشيني، “البُنيوية في الأدب” لـ روبرت شولز، “الهجوم على الأدب”، لـ رينيه ويليك، وغيرها…
وهنا أستذكرُ ترجمته لكتابي الباحثة الأمريكية إديث هاملتون “الأسلوب اليوناني” و”الأسلوب الروماني“، لما فيهما من عرضٍ شيّقٍ ودقيقٍ وحِـرَفـيّ لنَمَطَيّ حياةٍ مختلفين، ونظرتين مُتباينتَين كُـلّـيّـاً إلى الحياة والإنسان والأخلاق والآداب والفنون… يمـثّـلُهما الأسلوبان النقيضان “اليوناني” و”الروماني”.
كما أشيرُ إلى ترجمته لكتاب “الـخَـيَـال الأدبي” للناقد الكَنَدي نورثروب فراي، لما فيه من أهميّةٍ بالغةٍ في عرضِهِ لنُشُوءِ الأدب عند الشعوب القديمة، وارتباطه بدَوْرةِ فصول السنة، وتمايُزه وفقاً للشعائر الخاصّة بكلّ فصلٍ منها، ثمّ نشوء الأجناس الأدبية من هذا التمايُـز الطبيعي. أعتقدُ أنّ فهمَ الأدب لا يتحقّقُ من دون هذه النظرية.
أما في أعماله في النقد الأدبي؛ فيبلغُ حنّا عبّود أرفعَ ما يمكن للناقد أنْ يبلغه. فمنذ كتابه-الفاتحة: “النُّـزُوحات الكُبرى وأثرُها في الأدب العربي” (1979) الذي درسَ فيه حركاتِ النزوح المتعاقبة في بلاد الشام وأثرها في الأدب، وخصوصاً نزوحاتِ القرن العشرين: (النزوح الفلسطيني- النزوح الاسكندروني- النزوح الريفي- النزوح الحزيراني). إلى كتابه-المدرسة في النقد: “النحل البرّي والعسل الـمُرّ” (1982) الذي درسَ فيه الشعر السوري في السبعينيات، واستلَّ من خبْطِ عشوائهِ خُـيُـوطاً عامّة وَسَـمَتْ تلك المرحلة: (الرؤى السوداء- المازوخية- جُـنّـاز الطبيعة)، وأحالها إلى خصائص مشتركة بين شعراء ذاك الجيل: (ريفيُّون مهاجرون إلى المدينة- يَسَاريُّون- طبقة متوسّطة). وما زال هذا الكتاب حتى اليوم خيرَ مُعينٍ على دراسة الشعر السوري، وفهمِ تحوّلاتِهِ الفنية والسياسية، وتفسيرِ مواقفِ شعرائه الازدواجيّة والمتناقضة.
دعوني أقف عند كتابه “القصيدة والجسد” (1988) يا لهُ من كتاب! ففيه يتحدّث حنّا عن جسد الإنسان كما لو أنه طبيب، بل حلقة من الأطبّاء المجتهدين، ويرصد مراحلَ تطوُّر الجسد منذ الطفولة حتى البلوغ فالشباب، مُشيراً إلى الغُـدَدِ الصُّـمّ وعملها وإفرازاتها، وموضّحاً دورَ كُلِّ هُرمونٍ منها في توجيه الإنسانِ نحو صنفٍ من الآداب أو الفنون أو المواقف أو المشاعر. فبالـهُرمون يُفسِّر ظهورَ المواهب الموسيقيّة قبل المواهب الأدبية، وبسبب الـهُرمون تظهر الموهبةُ الشعرية في سنّ المراهقة، وبالهُرمون يوضِّح لنا لماذا يتمرّدُ الشاعر الشابُّ على محيطه وثقافته…
وللأستاذ حنّا عبّود.. أعمالٌ في النقد المسرحيّ، مثل كتاب “مسرح الدوائر المغلقة” (1978)، وكتاب “من حديث الفاجعة” الذي درسَ فيه ظاهرة مُحدَثي النعمة، وكيف كان المسرحُ من أنجع الأسلحة في التصدّي لها، فانطلقَ من “الفارصيّات” اليونانية، وصولاً إلى العصر الكلاسيكيّ ورائد الكوميديا الحديثة؛ موليير في مسرحيته الشهيرة “البرجوازيّ النبيل”.
في كتابه “الحداثة عبر التاريخ” يدرسُ “الآغا” (لقب للأستاذ حنّا من أصدقائه المقرّبين)؛ حداثتين محدَّدتين؛ هما الحداثة الزراعية عند اليونان والحداثة الصناعية في أوروبا، ويقوم بعرض مجموعة من النظريات الفلسفية والسياسية والاقتصادية ضمن زُمرتين: النظريات التطوّرية والنظريات غير التطوّرية.
“الميثولوجيا العالمية“.. كتابٌ في غاية الأهمية، صدر عام 2008، واستغرقتُ شهراً كاملاً في قراءته آنذاك، ليس لضخامته فهو في حدود 400 صفحة، بل لكثافته! الكتابُ مُلخّص لميثولوجيات معظمِ شُعُوبِ الأرض، أو قُلْ إنه مُلخَّص لأديانِ مِهَادِ الحضارات. ولم يقتصرْ عملُ الأستاذ حنّا على التجميع والتلخيص، بل هو يحلّلُ البنيان الميثولوجيّ لكلّ حضارةٍ، ويفسّرُ اختلافه عن غيره من الميثولوجيات. وعندما تعرف أنّ “الآغا” يُفسّر ماديّاً وأنثروبولوجياً، لا مثالياً ولا ثقافوياً، تعرفُ حينها أهمّية طرحه. هذا الكتاب الصادر عن مؤسسة تعيسة (اتحاد الكتّاب العرب) يُغني عن كثيرٍ من كتب في الميثولوجيا.
أما كتابه “البلاغة: من الابتهال إلى العولمة” (2007) الذي حملتُه معي إلى شمال أوروبا، فهو -كالعادة- كنزٌ من الإدهاش ومنجمٌ من المعرفة، إذ يُدهشكَ فيه بأنّ معظمَ البلاغة الإنسانية مستمدّة من الحيوان، وأنّ بلاغتنا اليومَ هي استمرارٌ -بشكلٍ أو بآخر- للمرحلة الطوطميّة. كما يُلخّصُ فيه الباحثُ بلاغاتِ الانقلاباتِ الثورية الحديثة (الثورة الفرنسية- الثورة البلشفية)، مُبيّناً كيفَ اختلفَ خطابُ ما قبلَ الثورة عمّا بعدها، وفي ماذا اختلف، وعلى ماذا يدلُّ هذا الاختلاف.
أما كتابه “النظرية الأدبية الحديثة والنقد الأسطوري” فقد يكون أوّل بناءٍ متينٍ لنظرية النقد الأسطوري، إذ لم يقمْ الأستاذ حنّا باستيراد أفكارٍ ونظرياتٍ من عند “ك.غ. يونع” و”ماود بودكين” و”نورثروب فراي” ثم جـمّعها وطرحَها بالعربية، بل قدّم نظريةَ نقدٍ أُسطوريّ عربيةً متكاملة، وأجرى دراساتٍ تطبيقةً بالاعتماد عليها، منها دراستُهُ لنمط “ليليث” وتحوّلاته من البانثيون السومريّ إلى التوراة العِـبْـرية ثم إلى قصيدة الغزل العربية. واستكمالاً لاشتغاله في منهج النقد الأسطوري ذاته، قدّمَ الأستاذ حنّا دراسةً بديعةً لظاهرة الطَّلَلِيّة في القصيدة الجاهلية: الوقوف على الديار وبكاء المحبوبة… وأعادها إلى دياناتِ الجزيرة العربية قبلَ الإسلام وطقُوسها، وذلك في كتابه الفاتن “من تاريخ القصيدة“، وفيه أيضاً دراسةٌ مثلُها عن القصيدة الخمرية عند العرب.
أما في كتاب “ليليث والحركة النسوية الحديثة” فقد لـخّصَ تاريخَ الحركة النّسْوية منذ عصر النهضة وحتى اليوم، مُشيراً وشارحاً لعشراتِ الكتب النسوية التي لـمَّا تُترجَمْ إلى العربية حتى اليوم. ثم عاد بنا إلى الأسطورة ونِسويّـاتها (ليليث- الأمازونيّات)، في سياقٍ بحثيّ قوامه التاريخ والأسطورة، الفيزيك والميتافيزيك. وأحسبُ كتابه هذا من أوائل الكتب العربية في هذا المجال.
كما يُحسب للأستاذ حنّا عبّود أنْ قدّمَ نظريةً جديدةً في كتابه “فُصُولٌ من علم الاقتصاد الأدبي” (1997)، وفيه يقسّمُ البشرَ إلى فئتين، فئة تريد امتلاك العالم بالمادّة والاستهلاك (الاقتصاد السياسيّ)، وفئة تريد امتلاك العالم بالأدب والجمال (الاقتصاد الأدبي). ويرى الكاتب أن تاريخ البشرية هو تاريخ الصراع بين هاتين الفئتين.
يتميّز نقدُ حنّا عبّود (في كتبه النقدية التي جاوزت الثلاثين كتاباً) بأنّه لا يركنُ إلى واحدٍ من المناهج التقليدية، بل يخترعُ المنهجَ المناسبَ لموضوع الكتاب. بعضُهم وصفَ عمله بـ “النقد الشُّمولي” وآخرون بـ “نقد العوالم الأدبية”. لكنّ ما يلفتُني في عمله النقديّ أمران (غيرُ الإدهاش والجِدّة اللذين لا نختلف عليهما) وهما؛ أولاً: إنه يستندُ في نقده الأدبي إلى مرجعيّة فكرية فلسفية، هي الفلسفات المادية (بصيغتها الماركسية-الإنجلزية في الغالب)، على خلاف مدارس النقد التي تنطلق من النصّ وتنتهي به. ثانياً: هو أنه يستندُ في نقده الأدبي إلى سلّةٍ من العُلُوم، كالبيولوجيا والأنثروبولوجيا وعلم النفس والاقتصاد السياسي، وهو متبحّـرٌ في العلم تبحُّـرهُ في الأدب.
لكنْ للأسف! صدرتْ معظمُ تلك الأعمال عن اتحاد الكتّاب العرب ووزارة الثقافة في دمشق، وكلتاهما مؤسّستان ضعيفتا التوزيع داخلَ سوريا، فما بالُكَ بخارج سوريا؟ وهذا ما حرمَ هذي الكتبَ النفيسة من الانتشار في البلدان العربية، وحرمَ القرّاءَ العربَ من التعرُّف عليها وعلى طُـرُوحاتها الـمُدهشة والفريدة، كما حرمَ صاحبها من أنْ يتبوّأ مكانته الطبيعية كواحدٍ من أبرز النقّاد العرب في الخمسين سنةً الأخيرة.
ما زال في جعبة الأستاذ حنّا عديدٌ من الكتب المترجمة والمؤلَّفة لـمّا تصدرْ بعدُ، إذ أخّرتْـها ظروفُ الحرب وتدهورُ أحوالِ دور النشر السورية، وتسْـيـِيْـسُ بعضها الآخر. نتمنّى لها الصُّدُور في أقرب وقتٍ وأحسنِ حال، في زمانٍ ضاعتْ فيه القِيَم، وتحوّلَ فيه الأدبُ والنقدُ والنشرُ إلى صناعاتٍ استهلاكيّة آنيّة ومبتذَلَة، يُشرفُ عليها تُـجّـارٌ وأُجَـرَاءُ تمويل… إلّا مَن رحمَ ربُّـكم!
“الشِعر ما عاد رومانسي وكريستالي هيك… الشِعر اليوم صار جارِح…”، هكذا قالَ ليْ في آخر لقاءٍ بيننا، في آذار 2011. وبالفعل، فقد انتقلَ شِعري من الورود إلى الجراح من بعدها، عملاً بنصيحته أو بأوامر القدَر.
الأديب والناقد السوري حنا عبود في سطور:
- ولد في قرية القلاطية التابعة لمدينة تلكلخ في محافظة حمص في العام 1937.
- تلقى تعليمه في حمص وتخرج من جامعة دمشق حاملاً الإجازة في اللغة العربية وآدابها، وعمل مدرساً، إضافة إلى عمله في تحرير مجلة “الآداب الأجنبية” ومجلة”الموقف الأدبي” الصادرتين عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق.
- عضو جمعية النقد الأدبي في اتحاد الكتاب العرب.
- نال عدة جوائز منها جائزة اتحاد الكتاب العرب التقديرية في النقد الأدبي.
- من أبرز مؤلفاته: المدرسة الواقعية في النقد العربي الحديث -دراسة- دمشق 1978، مسرح الدوائر المغلقة -دراسة- دمشق 1978، النزوحات الكبرى وأثرها في الأدب العربي -دمشق 1979، واقعية ما بعد الحرب -دراسة- دمشق 1980، تفاحة آدم -دراسة في أدب لورنس- بيروت 1980، النحل البري والعسل المر -دراسة في الشعر السوري المعاصر -دمشق 1982، العلوم الاجتماعية -ترجمة- دمشق 1981، صراع الأفكار في العصر الحديث -ترجمة- دمشق 1981، موجز تاريخ الفلسفة -ترجمة- بيروت 1971، القصيدة والجسد -دراسة- دمشق 1988، الحداثة عبر التاريخ -دراسة- دمشق 1989، فصول من الاقتصاد الأدبي – دراسة – دمشق1997، إضافة إلى عدد كبير من الكتب التي ترجمها في النقد الأدبي والفلسفة والتاريخ، والأداب.
عذراً التعليقات مغلقة