قراءة في كتاب “توقُ النصّ وأُفقُ الصُّورة” للأديب محمد طه العثمان
دراسة: عبد الكريم بدرخان
“حديثُنا في هذه الدراسة الشعرية؛ سيتركّزُ على الدّراما الشعرية بوصفها خصيصةً أساسيّةً في البناء الشعريّ الحديث ومكوّناً رئيساً له”.
بهذا الاستهلال، يحدّد الشاعرُ والناقد محمّد طه العثمان بشكلٍ جليٍّ موضوعَ بحثه النقديّ، والذي سيظلُّ مُخلصاً لهُ حتى آخرِ سطرٍ من كتابه: “توقُ النصّ وأُفقُ الصُّورة: قراءةٌ للدّراميّة في الشِّعر العربي“، الصادر عن “دار فضاءات للنشر والتوزيع” في عمّان، العام الفائت 2018.
بعد ذلك، يحدّد العثمان المنهجَ بعد الموضوع: “سنحاولُ التدليلَ على هذا الأمر من خلال الاعتماد على المنهج الجماليّ التحليلي، لأنه يُعنى بدراسة النصّ ودراسة الشكل الفنيّ بداخله من دون اللُّجوء للتفسيرات الخارجية”.
يقسّمُ العثمان كتابه -بعد المقدّمة- إلى ستّةِ فصول: 1) الدّراما والشعر القديم؛ 2) المستويات الفنية الدراميّة/ مفهوم التخطّي؛ 3) صوت “القناع” وصوت “الراوي”؛ 4) الديالوج: حركيّة النصّ؛ 5) المونولوج: تداعياتُ الذات؛ 6) مثالٌ تطبيقي عن آليّات تشكّل الدراما.
يبدأ العثمان الفصل الأول “الدراما والشعر القديم” من الربط ما بين الدراما والشعر لدى اليونان، فيعود إلى كتاب أرسطو “فنّ الشعر” ليؤكّد أنّ الشعرَ كان هو الشكْلَ النهائيّ للدراما، وأداتَـها التوصيليّة. وأُضيفُ هنا أنّ الأجناس الشعرية التي اعترفَ بها أرسطو: (الملحمة، التراجيديا، الكوميديا، والشعر التعليمي) كلُّها دراميّة، أو هي حكائيّةٌ سرديّة على الأقلّ. أما الشعر الغنائي (مثل شِعرنا العربيّ) فلم يضعه أرسطو في كتابه المذكور.
ينتقل العثمان بعد ذلك إلى الشعر العربي القديم، ليقول إنّ الحوارَ وتعدُّد الأصوات وكلُّ ما يشكّلُ نزعةً درامية؛ كان موجوداً منذ أقدم القصائد التي وصلتْنا، ويقصدُ معلّقة امرئ القيس بمطلعها الشهير: “قفا نبكِ…”، [إنْ صحّتْ نسبتُها إلى ذاك الزمن]. ثم يُعرّجُ على العصر الإسلامي ويستشهد بميميّة الحَطيئة المعروفة، تلك التي يروي فيها حكايةَ ضيوفٍ حلُّوا عند رجلٍ فقير، فما كان أمامَه إلا أنْ يذبحَ ابنه طعاماً لهم، لولا أنّ قطيعاً من حُمُر الوحش عبَرتْ من صوبهم وأنقذَتْ ماءَ وجهه. وأضيفُ أنّ ممارسة الصيد في العصور القديمة، كانت من أهمّ عوامل نشوء فنّ الحكاية وتطوّره. وكما هو متوقَّعٌ لدى القارئ الـمُطّلع، فإنّ الباحث سوف يصلُ -بعد ذلك- إلى عُمَر بن أبي ربيعة ومغامراته العاطفية. ويرى العثمان أن عُمَر كان يبدع في إدارة الحوار حتى يصل به إلى الذُروة، كما كان يبدعُ في سَردِ التفاصيل بعينين روائيتين، وأنه من خلال عُنصريّ السَّرْد والحوار؛ كان يحوّلُ نفسَه من عاشقٍ إلى معشوق، وهذه هي مِيْـزةُ عُمَرَ وإضافتُه إلى الشعر العربي.
في الفصل الثاني، يقسّم العثمان “المستويات الفنية الدرامية” إلى:
- شعرية القصد والإيصال: وهي التي تنحو فيها الشعريةُ نحو القصد والإيصال، متموضعةً تحت رداء الإيقاع والغنائية. ويُعيبُ العثمان على كثيرٍ من هذه النصوص أن الشعرية فيها تقتربُ نحو الجمود وفقر الدلالة، فيكون همُّ الشاعر إيصالُ فكرته أو قصّته بمكوّنها السرديّ؛ أكثـرَ مما يهمّه الشعرُ بحدّ ذاته. وكمثالٍ عليها يدرس قصيدة “قلم” للشاعر أحمد مطر، و”مرثاة قطّة” للشاعر نزار قباني.
- شعرية الانزياح: وهي التي تذهبُ معها اللغة نحو الكثافة الفنية الشفيفة، وهذا المستوى يشكّلُ الشاعرُ فيه التصميمَ الفنيَّ لأفكاره عن طريق الغنائية الموضوعية والعُدُول الفني للبِنْيَات والوحدات النحوية اللغوية، فتكون الصورةُ مكوّنةً من علاقاتِ المزاوجة التي يربطها رابطٌ ظاهرٌ وخفيٌّ في آن. ويدرس -كمثالٍ عليها- قصيدة “الجوع والضيف” للشاعر محمّد عمران.
- شعرية الكشف المركَّب: وفيها يذهبُ الشاعر نحو التكثيف العالي مع قليلٍ من الإيهام في اللغة، والتي تُحيل بالضرورة إلى صراع داخليّ يُنتجُ تأزُّماً. ويعتمد العثمان لدراسة هذا المستوى على ديوان “تاريخ يتمزّق في جسد امرأة” للشاعر أدونيس، ويرى أنّ السمةَ البارزة أُسلُوبيّاً في عمل أدونيس في هذه القصيدة؛ تكمنُ في توظيفه اللغةَ الدرامية الإنشادية التوراتية؛ للغوص في عمق تجربته التي تجسّدها أصواتٌ شعرية متعددة.
في الفصل الثالث من الكتاب: “صوت القناع/ صوت الراوي” يشيرُ العثمان إلى أهمية تقنية “القناع” ودورها في الشعر الحديث، فقد جاء “القناع” كنموذجٍ فني تصدرُ عنه الأقوال والأفعال والحركات، فيلتقي لسانُ حاله ولسانُ الآخرين فيكون المعبِّـرَ عنهم أيضاً، ليتشكّل العنصرُ الدرامي بكل مكوّناته تشكّلاً تلقائياً. ومن هنا يكون القناعُ هو الصوتَ الأكثر وقعاً والخيطَ الأكثر وصلاً بين الذات المبدعة وبالآخر من جهة، وبين الحاضر والماضي من جهة أخرى. وكدراسةٍ تطبيقية لتقنية القناع؛ يقوم العثمان بدراسة “قناع النبيّ يوسف” في قصيدة “الجُبّ” للشاعر حسن إبراهيم الحسن، وقصيدة “لا تُسمِّ الأشياء” للشاعر محمد البغدادي. ويبيّن كيف اختلفَ استخدامُ كلٍّ من الشاعرين للقناع ذاته، تبعاً للفكرة التي أراد كلٌّ منهما إيصالها.
في الفصل الرابع: “الديالوج: حركيّة النصّ“، يفرّق العثمان بين نوعين من الحوار الخارجي:
- حوار الصوتين المتعارضين: حيث يأخذ الحوار شكلاً متناسباً بين شخصيّتين لكلٍّ منهما حيّزها المكاني والزماني، وكلُّ واحدةٍ تريد أنْ تشاكل الأخرى وتلبسَها رؤاها، فيحتدمُ الحوار ويحتدُّ ليخلقَ عقدةً تريد الحلّ. وكمثالٍ على ذلك يدرسُ قصيدة “التداعياتُ الجماعيّة لأصدقاء العزلة” للشاعر تمّام التلاوي، حيث استدعى الشاعرُ شخصيّةَ ساعي البريد وأجرى معه حواراً مُتخيَّلاً. ثم قصيدة “شتاء ريتا” للشاعر محمود درويش التي عبّـر فيها -من خلال الحوار- عن أدقِّ مكوّناتِ النفسِ وأعمقها، فالشاعر يريدُ “ريتا” بكامل حضورها ويريدُ أن يتملّكها، ولكن في الوقت نفسه لا يريد أن يضيع في دائرتها أو يذوب في مائها.
- حوار الأصوات المتعدّدة: وتعودُ فكرتُه إلى ميخائيل باختين في معرض دراسته لأعمال دستويفسكي، إذ وصفَ الأخيرَ بأنه “خالقُ الرواية متعدّدة الأصوات”، والتعدُّد -حسبَ باختين- “خطابٌ يُستَحْضَرُ من خطابٍ آخر، وحديثٌ ينتجُ من رحمِ حديثٍ آخر”. ويرى العثمان أنّ تعدُّد الأصوات في العمل الشعريّ قريبٌ في تركيبه من العمل الروائيّ، لكنّ اللغة هي التي تختلف. وكأفضل الأمثلة على الحوارية وتعدُّد الأصوات؛ يبرزُ عملُ أدونيس الضخم “الكتاب”، فقد جعلَ أدونيسُ الشاعرَ المتنبي راوياً ومتحدّثاً والصوتَ الرئيسي في هذ العمل، فينتقلُ هذا الراوي للحديث عن الأزمات التي تعصف بالمجتمع من خلال استحضارِ أصواتٍ أخرى يُحدّثُها أو يتحدّثُ عنها، فيتكوّن لدينا ثلاثةُ أصواتٍ على الأقل في كل مشهدٍ أو حادثة.
في الفصل الخامس: “المونولوج: تداعيات الذات” يقول العثمان إن المونولوج تقنيةٌ مستعارةٌ من ميدان الأدب المسرحي، وتعبّرُ فيه شخصيةٌ واحدةٌ عن حركة وعيها الداخليّ، وإنه أقربُ أنواع الحوار إلى الشعر وأكثرها ملاءمة. وكمثالٍ على استخدام المونولوج، يدرس قصيدة “موجةٌ من صهيل” للشاعر عمر عنّاز، والتي عبّر شاعرُها -بالحوار الداخلي وتعدُّد أصواتِ الذات- عن تشظّي النفْس وفقدان الهوية بعد ضَيَاع الوطن.
في الفصل السادس، يدرسُ العثمان قصيدة “شقراء” للشاعر بدويّ الجبل كمثالٍ تطبيقيّ عن آليّات تشكُّل الدّراما. وهي دراسةٌ ممتعة وشيّقة لقصيدةٍ مميّزةٍ يتصارعُ فيها صوتانِ عاليان: صوتُ الشاعر المغرور بإبداعه، وصوتُ الشقراء المغرورة بجمالها.
أعرف أنّ هذه المراجعة السريعة قد لا تقدّم فكرةً وافيةً عن الكتاب، بل ربّما “تُشَوّه” بعضاً من جماليّته. لكنني أردتُ أنْ أحملَ عن العثمان صخرتَهُ قليلاً، وأُشيدَ بتوظيف الدراما في الشِعر كواحدةٍ من أهمِّ تقنيّاتِ بناءِ القصيدة الحديثة، وكواحدةٍ من أهمّ روافع الشعرية من مستوياتها الذاتيّة والغنائيّة إلى مَعَارج الموضوعيّة والدراميّة. خصوصاً بعدما بات الشعرُ العربيُّ ضائعاً بين قصيدةِ نثرٍ أعجميّةٍ تقفُ دونَ الحدِّ الشِعريّ بأمتار، وقصيدةِ شَطْرين مُلفَّقةٍ وغريبةٍ عن زمانها ومكانها وثقافتها.
محمّـد طه العثمان في سطور:
ــ شاعر وناقد سوري من مواليد مدينة حلفايا في محافظة حماة في العام 1984.
ــ يحمل إجازة في اللغة العربية وآدابها، وعمل مدرساً في جامعة حماة.
ــ حاصل على عدة جوائز عربية ومحلية منها جائزة الشارقة للإبداع العربي في حقل النقد، وله مشاركات عديدة في مهرجانات أدبية عربية ومحلية.
ــ صدر له ثلاث مجموعاتٍ شعرية: “دخانُ الدفء والمعنى”، “سِدرةُ الموت.. شهوةُ الوطن” و “جاءتْ تُربّي الضُوء”. ولهُ ثلاثة كتبٍ نقدية: “الـبُعد الثاني: قراءةٌ في آفاق الشعرية العربية”، “لـذّةُ الرؤيا: المكوّنات السرديّة بين التوظيف والإيحاء”، و “توقُ النصّ وأُفقُ الصورة: قراءة للدراميّة في الشعر العربي”. ولهُ رواية واحدة هي: “حَرَبْـلِـكْ”.
Sorry Comments are closed