تحديات الهوية الوطنية وتكريس مفهوم المواطنة

جمعة الحمود23 يناير 2019آخر تحديث :
تحديات الهوية الوطنية وتكريس مفهوم المواطنة

تمرّ المنطقة العربية بأزمة هويّة نتيجة الانقسام الطائفي والعرقي والعشائري والإثني الذي كرّسته الأنظمة الدكتاتورية، وهذا سلاح سيء وخطير يتم تسويقه بين الشعوب العربية في المنطقة، فبات يسعى كل طرف لخلق هوية خاصة به بعيدًا عن الهوية الوطنية والانتماء الواحد،
الحديث عن عربي وعلماني ومسلم ومسيحي أوجدنا من خلاله هويات متعددة أنتجت أزمات خطيرة -بالاضافة الى الجهل والفساد الذي ينخر مجتمعاتنا- فأصبح حجم الثغرة في المجتمع الواحد أكبر مما يتحمله الوطن.

تعتبر الطائفية مشكلة أساسية في انقسام المجتمع، وعندما يقوم النظام السياسي باستغلال الطوائف لأغراض سياسية أو يتم بناء النظام السياسي بأكمله على أسس طائفية -كما هو الحال في لبنان والعراق وسوريا- تتحول الطائفية إلى معضلة سياسية حيث يقوم النظام السياسي بنزع صفة المواطنة عن المواطنين وتحويلهم الى أبناء طوائف متعددة مختلفة التوجه والانتماء -أي يتم تحويلهم إلى طائفيين- وهنا تتحول الطوائف إلى كيانات سياسية خاصة في ظل النظم الدكتاتورية التي تحرص على جعل المواطنين في صراع طائفي وطبقي واجتماعي، حيث يبتلع النظام الدولة ويشيع وهماً بين أفراد المجتمع أنه الضامن لبقائها وأن غيابه يعني الفوضى والاحتراب المجتمعي والصراع أو التقسيم؛ وبهذا تغيب ثقافة المواطنة لتحل مكانها ثقافة أخرى تسمى “وطنية الدكتاتور”، وإن اسوأ ما تخشاه تلك الأنظمة ودول الاحتلال التي نصبتها، هو الوعي الذي يقود إلى الفصل بين النظام والدولة وإشاعة ثقافة المواطنة التي ترفض الطائفية والعرقية والعشائرية وكل أشكال التفرقة بين أبناء المجتمع الواحد.

جاءت ثورات الربيع العربي -ومنها الثورة السورية- في مجملها لتحقق تلك الثقافة الغائبة أو المغيبة قسراً (المواطنة) لتحمل في مفرداتها البحث عن الحرية والمساواة والكرامة وحق تداول السلطة.

لم يكن التقسيم المجتمعي وصناعة كيانات سياسية -لم تصل إلى مفهوم الدولة الحديثة- نتاج صناعة الدول المحتلة فحسب؛ بل اعتمدت “دول الاحتلال” على إدارة تلك الكيانات من قِبل طوائف وأسر ونظم عسكرية كلما شعرت أن ثمة “مواطنة” قد تتشكل في بلد ما، فإن القوة العسكرية بانتظار ذلك البلد لإعادة ترسيخ التنافر المجتمعي ومن ثم الاحتراب الذي يعتبر أنجع السبل لمنع ذلك. فسوريا لا يراد لها أن تُقسّم جيو-سياسياً بل اجتماعياً، وقد بدا واضحاً ظهور الكيانات الطائفية والعرقية، فالانقسام المجتمعي هو الأخطر حيث يصبح النسيج الاجتماعي رخواً وقابل للتهتك والصراع في أي وقت.

ومن خلال تسليط الضوء على الثورة السورية، يلاحظ أنها تميزت في مراحلها الأولى بتنوع الانتماءات وتعدد الهويات الفرعية ضمن إطار وطني جامع من خلال ارتكازها على أسس مطلبية سامية، تنادي بإنهاء الدولة الطائفية القمعية وإطلاق الحريات العامة ومحاربة الفساد، ولم تظهر المشاريع المؤدلجة والهويات الأممية التي تهدد بطمس الهوية الوطنية إلا في مرحلة لاحقة عندما حاولت بعض الحركات اللحاق بالحراك الشعبي وعملت على أدلجته وتجييره لصالح توجهاتها، ولابد من التمييز هنا بين ثلاثة أمور:

*  المكونات الطبيعية للهوية الوطنية السورية ويأتي في مقدمة ذلك الإسلام والعروبة والهوية الوطنية الجامعة، بالإضافة إلى انتماء المناطق الذي صبغ التشكيلات في مراحلها المبكرة كمكون مجتمعي غير مؤدلج أو منظم حركياً.

* الهويات الطارئة التي حاولت التغلغل في صفوف قوى الثورة والمعارضة كمشروع “داعش” الذي يهدف إلى إنشاء خلافة وهمية، ومشروع ” تنظيم القاعدة ” لإقامة إمارة إسلامية على أساس اممي، حيث وجدت حركات الغلو هذه
قبولًا في بعض الأوساط الشبابية كردّّ فعل على تقمّص نظام الأسد هوية طائفية من جهة، والمحاولات التي بذلتها بعض القوى الخارجية لإضفاء صبغة علمانية على الحراك الثوري من جهة ثانية.

* استيقاظ الهويات الفرعية والعشائرية والإثنية، حيث بادرت بعض المجموعات السكانية من أفراد المجتمع السوري إلى تشكيل دوائر أمان تحمي بها نفسها، في ظل اضمحلال السلطة وإخفاق المعارضة في تشكيل بنى مؤسساتية ناضجة لملء الفراغ مما أدى لتحوّل سوريا إلى دولة فاشلة، كما حظيت بعض هذه المجموعات بدعم وتمويل خارجي مما شجعها لتبنّي سياسات انفصالية وأجندات تتماهى مع مرجعياتها الطائفية والإثنية خارج الحدود.

يُراد للتحدي الطائفي في سوريا أن يكون مشروعاً بديلاً للدولة وليس مجرد إشكالية علاقات مجتمعية، حيث يقوم المشروع على إعادة إنتاج مشروع الانتداب الفرنسي -من خلال إضعاف مؤسسات الحكم المركزي- ورفع شعار تمكين الأقليات وترسيخ نفوذهم وتعزيز سطوتهم المؤسسية من خلال تعزيز دور الميليشيات الطائفية والإثنية خارج إطار الدولة، وتشجيعها للإسهام في العملية السياسية باعتبارها الضامن الأساس لمنع الحركات الإسلامية من الانفراد بالحكم
وهذا ما تسعى له القوى الدولية والاقليمية مجتمعة تحقيقاً لمصالحها من خلال نظام طائفي وظيفي يجعل سوريا كيانات سياسية طائفية وعرقية تتساند على حساب الكتلة الصلبة (العرب السنة) ومن ثم تعمد لإعادة إنتاج النظام الطائفي -سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً- بنظام حلف الأقليات بعد التفريغ الهائل للعرب السنة من البلاد.

ليست المشكلة الاعتراف بالطوائف وتنوعها الثقافي واعتقادها الديني كإرث حضاري، ولكن المشكل بتحولها إلى كيانات سياسية طائفية، لذلك يجب ألا يكون للطوائف معطى سياسياّ ونزع الصفة السياسية عن الطوائف يكون بتعميم مفهوم “المواطنة المتساوية” بالحقوق والواجبات التي يكفلها ويصونها القانون من خلال بناء سوريا جديدة خالية من الإستبداد تتجاوز الطائفية عن طريق المواطنة -إحدى أهم الأولويات في مواجهة الأنظمة الاستبدادية التي تستخدم الطائفة كدعامة رئيسية في تثبيت حكمها- وألا تعامل الدولة الأفراد والجماعات الدينية والطائفية والعرقية والعشائرية ككيانات سياسية تعكس انتماءهم لغير الوطن.

يكمن التحدي الأكبر في إعادة تحديد ملامح الهوية الوطنية من خلال توسيع دائرة الحوار الوطني فيما يحترم التعددية
ويحقق المطالب الشعبية بالحرية والمساواة والعدالة بعيداً عن الوصاية الدولية والتدخل الخارجي، ومن أجل استعادة زخم المراحل الأولى للثورة السورية وجمع القوى الثورية على أجندة سياسية موحدة، لا بدّ من تطبيق مفاهيم إدارة التنوع ضمن الحراك الشعبي الوطني، والعمل من خلالها على حشد الحراك الثوري بكافة مستوياته وإعادة بناء الدولة ومؤسساتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل