وجوه: الشاعر رشيد عبّاس.. أَحبّها حدّ العناق وفرقتهما حواجز التفتيش

سليمان نحيلي20 يناير 2019آخر تحديث :
سليمان نحيلي

وُجوه

سليمان نحيلي

بعد الشّتات السّوريّ في كل أصقاع الأرض، استمرّ مبدعو سورية في مواصلة مسيرتهم الإبداعية من منافيهم تجمعهم بواعث الحنين إلى الوطن والأهل، والرغبة في الخلاص من الظلم والقهر والفساد وصولاً إلى سورية التي نحلم.

من هذه الاعتبارات، فقد رأيت أنه من الواجب علينا أن نعيد تسليط الضوء على تلك الوجوه التي غيّبتها المنافي – لكنها لم تزل حاضرةً، تصارع الغياب والظلم بالإبداع، وفيةً لرسالة الفن في النضال والتّغيير – وذلك عبر سلسلةٍ هي أقرب للتعريف بالمبدع ونتاجه منها للبحث الفني والنقدي، مكتفياً بنبذةٍ عن حياة المبدع ونتاجه حسب المتوفر من أعماله على صفحات الفيس بوك، أو مما تيسّر لنا الاطلاع عليه من أعماله، إنها مقاربة فنية لتجربة كلٍّ منهم.

الشاعر رشيد عبّاس.. أَحبّها حدّ العناق وفرقتهما حواجز التفتيش

حين تقرأ لرشيد عباس، تشعر أن الفرات يمسك بيدك لترافقه في رحلة الجريان والشوق، إذ يقودك إلى السهول والبراري على امتداد الشمال السوري المترع أُلفة، حيث «البوراز» وبكرم سهلٍ فسيحٍ يغدق عليك وعلى الفلاحين الطيبين ما وهبهُ سيد الخصبِ، الفراتُ، من أمواهٍ وأفياء وأطيار وغلال وأغاني الحصّادين، تلك الأغاني التي لا يقايض الفلاحون عليها بأي ثمين.

ذلك السهل وذلك النهر وهبا رشيد عباس كل مقاليد الجمال، فشدّ النهر وتراً على صدر كمنجته لينثر في تراب البوراز بذور حبه حروفاً، لتثمر قمحاً وقصائد، وها هو يخاطب الفرات في مشهدٍ بديع:

أخشى عليكَ من النهر ياولدي

أذكر الآن كنتَ تلوّحُ للشمس

يا ابن المسافات قف !!

قد عزفتَ على وترٍ واحد آهة الشوقِ

ثمّ انكسرتَ عند المفترق..

ولد الشاعر رشيد عباس في أوائل سبعينيات القرن الماضي في قرية البوراز الواقعة على الضفة الغربية لنهر الفرات، من نواحي عين العرب (كوباني)، في الريف الحلبي الفسيح شمال شرق سوريا.

حصل على إجازة في اللغة العربية وآدابها من جامعة حمص التي أقامَ فيها خلال سنيِّ دراسته، وكتب في بساتينها وعاصيها قصائد وفاء وعشق.

يعمل في التدريس، ويكتب باللغتين الكردية والعربية، كما يكتب القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً، ونال جوائز كثيرة على المستوى السوري.

حازت مجموعتاه “عزف على وتر الذكرى”، و “أُثقلت بالهواجس أغنيتي”، على تنويه لجنة التحكيم في مسابقة الشارقة في العامين 2007 و2010، وهما تحت الطبع إضافة إلى مجموعة “على ساحل القلب”، التي حالت ظروف البلاد دون إتمام طباعتها حتى الآن.

يتعامل شاعرنا مع اللغة بحساسية ناي وليونة غيمة، حيث تنداحُ اللغة عنده كما نهر يغذُّ الخطا ناشراً الخصب والجمال، واصلاً أراضيَ بكر يفعمها بالحب والعطر والأسرار:

هي امرأة تخبِّئ ذاتها في قمة الأسرار

أذكر أنني شبهتها بالياسمين

فغامرت بالعطر

حتى أنها انسكبت تماماً في القصيدة …

للأنثى حضورٌ لافتٌ في مجمل تجربة شاعرنا، فهي ملهمته الأولى، وهو مؤمن بدور المرأة الفعّال جنباً إلى جنب مع الرجل في صنع مستقبلهما معاً وفقَ ثنائية (الرجل المرأة) – (الحياة الوجود).

والحبيبة غالباً ما تظهر قاطعةً حبل الودّ بغتةً، تاركة ً حبيبها يواجه وحيداً نوبات الشوق والحنين، إنها:

تلكَ التي أيقظت في داخلي وتراً …

ثمّ اختفت بغتةً والقلبُ لايدري

قد أصبحت غايةً في العمرِ ثمّ مضت ..

لها الحنينُ بصدري لايَني يجري

وهو ليس مستسلماً للأعراف والتقاليد الظالمة التي تَئدُ المشاعر، إنما هو متمردٌ عليها منتصرٌ للحب يركب لأجله المخاطر، يقول:

ليلى تحاول أن تعودَ إليكَ يا مجنون

قف قرب أول خيمةٍ

كن جاهزاً للخطفِ

لاتكن مجنونها ،كن قيسَ ليلى

وامتشق سيف التمرّد والرّدى..

ومن المعالم الواضحة في كثيرٍ من قصائد رشيد، سيطرة هاجس الغربة والبعد والقلق من المجهول حتى يدفعه ذلك إلى القول:

غدي يأتي على ريح ِ الأسى

خوفا ً من المجهول أجهشُ بالغباء..

لا أدري أين الرّياح تجرّني.. ؟

ونقرأُ له أيضاً:

كأنّا بحضنِ المواويلِ جرحٌ

يطرّزُ هذا الأنين

أنا ردهة القصائد

يسكبني الشعرُ في قلقي…

الشاعر السوري رشيد عبّاس في إحدى مشاركاته الشعرية

ولذلك تطالعكَ في ثنيّاتِ قصائده ألفاظ تغذي هذا المعنى عبر حقولٍ من المعاني ذات الدلالات المتدرجة في الإيحاء، مثل (القافلة، الظعائن، خيمة مضارب).

ومما يُكسبُ قصائده سمة الجذب استخدامه تقنية الأسئلة في صياغة جمله الشعرية، فتأتي هذه الأسئلة مشبعة بالعناصر الدرامية التي تستثير المخيال لدى القارئ عبر نثر مفردات تتسم بالحركية الموحية والتناغم اللفظي والمعنوي، فيسأل:

مَن جعلَ الكمان يئنّ في صوت الغدير؟

خريره المبحوح في قلب البحار يذوب..

منْ غافلَ الأزهار قرب نوافذي؟

منْ أوقدَ الأوتار في عودِ الإثارة؟!

ولم يكن شاعرنا بعيداً يوماً عن الهمّ العام، بل شغله الوطن وآلامه وابن الوطن وطموحاته في الحرية والعيش بكرامة إنسان.

ولعلّ أبرز ما يميز رشيد في قصائده الحديثة هو تناوله موضوع الحواجز التي زرعها أعداء الحرية والانسان على ناصية كل شارع في بلده، فأدان تلك الحواجز التي أعملت في وطنه وشعبه تقسيماً واستبداداً واستعباداً واعتقالاً، وقسّمت الوطن والشعب إلى جزئيات بشرية صغيرة متناحرة، ولعلّي لا أُخطئ إن قلت إنه يُكتبُ لرشيد عصا السّبق في تناول وإدانة مسألة الحواجز وكيف عصفت بكل ما هو إنساني جميل، بقضيةٍ كبرى هي الحب.

يقول في مجموعة قصائد مكتوبة في العام 2014:

بيننا خطوتان، وصوت رصاص

وبعضُ حواجز تحرق نبض الحياة على الأرض…

فانتظري إن تأخرتُ..

ويدين الحواجز ويشتم الحرب فيقول:

ونحن في الدربِ

نشتمُ كلّ الدوبِ

وكلّ الحروبِ ،وكل الحدود ِ

التي تستحيل سجونا…

وفي موضع آخر يقول :

هنا الحواجز

مزّقت حتى هواءَ الله …

وعلى الرغم من تداخل المدارس الأدبية في إبداعه، إلا أنه ربما يميلُ إلى المدرسة الواقعية الجديدة، من خلال إبراز إيمانه بدور الإنسان وإرادته، وتفاؤله بمستقبل جديد ومناهضته قوى الهيمنة التي تجتهد في إشعال نار الحروب بين شعب واحد على أرضٍ واحدة، وفي السخرية من الشركات الاحتكارية وشركات الأسلحة العالمية، شركات بيع الموت، ها هو يندّد بها ساخراً:

واستمتعوا بالحرب

لا تستمتعوا بالحب

يا تجّار أسلحة الدّمار..

وبالرغم من هذه الآلام العاتية، نرى إصراره عنيداً في الأمل بشروق شمس الحرية يوماً ما، إلا أنّ الأمل لا يبقى محصوراً في سوريا بلده، لكنه يتخطّاه إلى العراق الذي تربطه بوطنه وحدة الدم والجرح والحلم، لنستمع إلى وقع تفائله بزوال الحواجز وانتهاء الحرب وعودة الاستقرار والحرية في مقطع استخدم فيه تقنية التدوير التي توزعت عبر نصوصه:

فيا ليتَ بيني وبينكِ تُخفى المسافات، تُمحى الحواجز

سوف تفيضين مثل الفراتَ

وقلبي كدجلة يجري

كلانا يسير إلى الملتقى

نحو شطّ بأرضِ العراق …

يشعر أن كل أراضي الوطن هي سهل البوراز، يعشقها كأرضه وخاصة حين تكون حمص التي سكنها فسكنت قلبه، وانغرز فيها كشجر الزنزلخت، ولذلك نراه يقول لها:

كأني إذاً زنزلختُ

وحمص تُثبّتُ في الأرضِ جذعي…

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل