يلوّح قادة عرب لشعوبهم بفشل تجارب عربيةٍ في تغيير الأنظمة، ضمن تكرار المعادلة الصفرية “إما أنا أو الفوضى”، لدفع الشعوب إلى التسليم بالأمر الواقع، بتسخير خطاب ديماغوجي، يخلط بين الأسباب والنتائج، ويفتقر إلى الحد الأدنى من العقلانية. في هذا الخطاب، يصوَّر فشل الأنظمة في تلبية تطلعات شعوبها، وحشرها مواطنيها عن سبق الإصرار والترصّد بين خيارين، الاستكانة أو التوحش، وغرور الحكام الذين يساوون أنفسهم بالدولة، محولين التاريخ، بل الأبدية، إلى مجرد نادلٍ يقدم لهم الخدمات، للبقاء على الكرسي، حتى لو بات عائمًا على بحرٍ من الدماء. يصور هذا كله، وكأنه فشل الشعوب والمجتمعات. يدعو خطاب أنظمةٍ شاخت ألف عام في زمن الثورات العربية، وتلعب حاليًّا في الزمن الضائع، ليس فقط إلى تحميل حراك الشعوب إثم الأنظمة، بل حتى إلى لوم التجرّؤ على الأمل، وعدّ الأمل نفسه خطيئة، ويحثّ الناس على وأد كل فضيلة فيهم.
ليست هذه هي الدروس التي نقصدها في عنوان هذا المقال، بل نسرد فيه عبرًا من منظورٍ مختلفٍ تماما. لقد ارتكبت الأنظمة الكبائر في تصدّيها الدموي لمسار التاريخ، ولكن حركة القوى الاجتماعية والسياسية المتطلعة إلى تغيير الأنظمة القائمة عانت من نقص الخبرة، والانجرار إلى المزايدات، ووقعت في أخطاء كارثية، ورهانات غير مأمونة، في مرحلة الثورات. وهدف استخلاص العبر هو عقلنة أي حراكٍ قادمٍ من أجل التغيير.
فيما يتجاوز التنوع الفكري والسياسي واختلاف المواقع الاجتماعيّة للفاعلين السياسيين في السودان، من واجب جميع المعنيين بالتغيير من بينهم، سواء أكانوا في المعارضة أم حتى ضمن النخب الحاكمة، الاستفادة من تجارب الثورات العربية ومآلاتها، وتجربة الانتقال الديمقراطي القصيرة والمحدودة التي أفشلت في مصر، بفعل عوامل داخلية وتدخل دول إقليمية، وتجربة الانتقال الديمقراطي التي ما زالت قيد الترسيخ في تونس. تختلف الظروف بين بلد وآخر، ولن تسير الأحداث على خطى تجارب سابقة. ولكن من الضروري الاستفادة من العبر، إذا استخلصت عن معرفة ودراية.
ومن دون وصف إنشائي للمرحلة المفصلية التي يمر بها السودان، والظروف الصعبة التي يعيشها السودانيون الذين لا يحتاجون من يعظهم بشأنها، أنتقل مباشرةً إلى ذكر بعض الدروس العربية التي من واجب القوى الديمقراطية في أي بلد عربي الاستفادة منها:
أولًا: إنّ الاحتجاج الشعبي الذي ينطلق عفويًّا رافضًا الضيم، رافعًا مطالب اجتماعيّة، ولا يلبث أن يتسع نطاقه، ويتجذّر خطابه، وصولًا إلى مطلب إسقاط النظام قد ينتهي، إذا حظي بديمومةٍ ودعم كافيين، إلى أحد الاحتمالات غير الحصرية التالية:
أ- تغلّب طابع العفويّة عليه، وانتهاؤها إلى نتائج غير محمودة، مثل: التعب والتفرّق غير المنظّم، إذا كان القمع في المقابل مثابرًا؛ أو تصاعد الاحتجاجات إلى درجة إسقاط الحاكم، إذا حصل انشقاق داخل النخبة الحاكمة، وانحاز الجيش إليه، أو التزم الحياد على الأقل. وبهذا لا تنتهي القضية، فقد يطوّر الجيش طموحًا للاستيلاء على السلطة، إذا لم تنشأ شرعيةٌ ثوريةٌ منظمةٌ لها عناوين قيادية واضحة، أو قوى سياسية منظمة تقوم بهذا الدور وتحتل هذا الموقف، وإذا لم تكن المعارضة موحدةً في برنامج سياسي للانتقال الديمقراطي.
ب- قيام النظام بمجموعة إصلاحات غير جوهرية لاحتواء الحراك الشعبي، من دون أن يفقد زمام المبادرة، بمعنى أن يتراجع عنها حين يكون الظرف مناسبًا، كما فعلت بعض الأنظمة العربية أخيرًا، مكررةً ما حصل مرات عدة منذ ثمانينيات القرن الماضي، بعد موجات احتجاج شهدتها دول عربية.
ت- انضمام الجيش إلى قمع الانتفاضة، ما قد يفضي إلى أحد احتمالين: هزيمة الانتفاضة الشعبية، أو تسلحها في مواجهة الجيش، ما يعني الدخول في الحرب الأهلية، ولها “منطقها” المختلف عن منطق الثورات، وتدخل قوى إقليمية ودولية، حسب الأهمية الاستراتيجية للبلد، ولا سيما إذا استُغلّ شرخ إثني أو طائفي أو غيره (سورية، واليمن بدرجة أقل إذ شهد انشقاق الجيش أيضًا).
ث- دفع الانتفاضة الشعبية النظام إلى القيام بإصلاحات جوهريّة، مثل أن يجد النظام الديكتاتوري في الانتخابات مخرجًا مشرّفًا لتسليم السلطة بعقد انتخابات نزيهة، (وهذا إصلاح جوهري بمصطلحات هذا المقال)، أو يعتقد أنه سوف يكسبها، كما حصل مع بينوشيه في تشيلي، إذ خسر الانتخابات وسلم السلطة بعد عقد ونصف من حكم ديكتاتوري، ونشأت حالة انتقالية إلى الديمقراطية، قدّم الجميع، ولا سيما الجيش، ضمانات لإنجاحها. ولكن ليس هذا هو النموذج الرائج للإصلاحات. المهم هو دفع النظام لإجراء إصلاحات جوهرية والمطالبة بتوسيعها حتى البدء بعمليّة انتقال حقيقي تنضم فيها فئات من النخبة الحاكمة إلى المعارضة في تنظيم عملية انتقال حقيقية لتغيير النظام (تونس)، وهو السيناريو التي يفترض أن تنشده القوى الديمقراطية. فهذا الخيار هو الخيار الأسلم. ولكنه متعلقٌ إلى درجةٍ كبيرةٍ بثقافة النخب في السلطة والمعارضة، من ضمن أمور أخرى؛ وفي السودان أحزاب وقوى مدنية منظمة وتاريخ من العمل السياسي السلمي تزيد من إمكانية إنجاحه.
ثانيا: إذا توقّفنا عند الاحتمال الرابع والأخير، وهو الذي يهمنا في هذه الحالة، وأعتقد أنّه يهم الشعب السوداني وجميع الشعوب العربيّة، فإنّه لا يمكن أن تصل إليه الانتفاضة الشعبيّة العفويّة إلا بشرطين:
أ- الانتقال إلى درجةٍ أعلى من التنظيم بطرح برنامج سياسي حقيقي، تتفق عليه جميع القوى السياسية الفاعلة الراغبة بتأسيس نظام ديمقراطي.
ب- رفض الجيش أن يقمع الحراك الشعبي، والالتزام بالحفاظ على أمن البلاد ووحدتها، (والجيش السوداني قادر على ذلك).
يتعذر تحقيق الشرط الأوّل، إذا لم تتعاون القوى السياسيّة على تجاوز الشروخ الكبيرة، سواء أكانت أيديولوجيّة، أم مسائل متعلقة بسياسات الهوية الإثنية أو الطائفية أو غيرها، وذلك عبر إخضاع الخلافات لضرورات المرحلة الانتقالية، وبناء النظام والمؤسسات الديمقراطية، وتأطير الخلافات داخلها. فلا يمكن البدء بانتقالٍ حقيقيٍّ، بوجود شروخٍ كبرى، تؤدي إلى استقطاباتٍ من نوع إما… أو…، إما كل شيء أو لا شيء، فالاستقطاب يؤدي، غالبا، إلى الفشل. وقد أدى في مصر إلى تنافس كل طرفٍ من طرفي الاستقطاب المعارضين على كسب الجيش إلى جانبه ضد الآخر، واستغل الأخير التبرّع له بشرعية التدخل في السياسة لكي يستولي على النظام.
أمّا الشرط الثاني لنجاح هذا الخيار فيتحقق إذا كانت الحركة الشعبية قادرةً على الحوار مع أطرافٍ من النظام. أما إذا كانت رافضةً للتسويات، وقامت بتهديد جميع عناصر النظام (من دون عدالة انتقالية منظمة)، فإن هذا يؤدي إلى ربط النخبة الحاكمة وقواعدها لمصيرها بمصير النظام. لا يجوز أن تراهن الحركة الشعبيّة المعنيّة بتغييرٍ ديمقراطيٍّ، على محو كل ما كان وكأنها تبدأ من الصفر، لأنّ هذا غالبا ما يقود إما إلى توحيد النظام مثل قلعة حصينة يحرسها الجيش، أو نشوء نوعٍ من الحرب الأهليّة التي ينتصر فيها النظام، إذا كان الجيش معه، أو تنتصر قوى التغيير بعد تصدّر القوى الأكثر تطرّفًا المعارضة، كما يحصل في الحروب الأهلية، وينشأ احتمال فعلي لقيام نظام سلطوي جديد، فالتغيير الديمقراطي، أو على الأقل المتّجه نحو الديمقراطية، يحتاج إلى قدر من الوفاق الاجتماعي، والقدرة على المساومة، والتفاهم مع العناصر المعتدلة في السلطة المعنيّة، أي التي تقبل بتوسيع الإصلاحات، وبمرحلة انتقاليّة باتجاه تغيير للنظام متفق عليه. ولا يمكن أن يحصل هذا، إذا كانت المعارضة تُهدّد باقتلاع أو تصفية كل من عمل في النظام القديم كما حصل في ليبيا مثلًا.
ثالثًا: يتطلب تحقيق هذه الشروط وجود قيادة واعيةٍ ذات إرادة صلبة، فللعفوية دور مهم في اللحظة الثورية، ولكن ثمّة حدود لهذا الدور، يصب بعدها في مصلحة النظام، في غياب قيادة لديها وضوحٌ بشأن الأهداف، واستعداد للمساومة في الطريق إلى تحقيقها. ويتجلى ذلك بالتوصل إلى برنامج حدٍّ أدنى متفق عليه للمرحلة التالية، يتضمن سبل الانتقال السلمي، من دون تهديدٍ بالانتقام، حتى لو كان الثمن تقديم ضماناتٍ لرموز النظام في مقابل تخليهم عن السلطة. ولا تدوم مرحلةٍ انتقالية، ولا تنجح إذا لم تجر في ظلّ وحدة قوى التغيير بتعالٍ عن البرامج الأيديولوجيّة، وعن محاولة إحياء الشروخ الهوياتيّة لأغراض التعبئة.
وإذا كان الهدف إقامة نظام ديمقراطي، يفترض أن تكون القوى الديمقراطية معنيةً في البداية بالقضايا الثلاث التالية:
1- تحديد معالم المرحلة الانتقالية مع بقية القوى، والالتزام بإنجاحها، باعتباره فوق المصلحة الحزبية.
2- الإجماع على احترام المؤسسات والإجراءات الديمقراطية، وقيمها الرئيسيّة المتعلقة بالحقوق والحريات. ولا يمكن إنجاح مرحلةٍ انتقاليةٍ نحو الديمقراطية بالانتخابات وحدها، بل بإرساء وحدة وطنية بعد انتخابات انتقالية (أي عدم اعتماد أغلبية ضئيلة للحكم) ريثما تبنى الثقة، وتترسخ المؤسّسات الديمقراطية القائمة، ويستقر الإجماع الوطني على الإجراءات الديمقراطية إلى درجة احترام حكم الأكثريّة.
إن محاولة حسم قضايا رئيسيّة في المرحلة الانتقاليّة، بواسطة حكم الأغلبيّة، هو مسعى خطير قد يودي بالتجربة. ويجب أوّلًا تحقيق إجماع على النظام الديمقراطي ذاته بين التيارات السياسية الرئيسية والقوى الرئيسية في المجتمع. بحيث يصبح ممكنًا إدارة حكم الأغلبيّة تحت سقفها بعد نهاية المرحلة الانتقالية، وذلك بعد أن تصبح القوى السياسية واثقةً أنّ الأقلية ستقبل حسم الأغلبيّة، وأنّ الأغلبيّة ستقبل التداول السلمي للسلطة حين يحين الوقت، إذا تغيرت موازين القوى، وأصبحت الأقلية أغلبيّة انتخابية، وأن كلًّا منهما يحترم مبادئ الديمقراطية المتعلقة بالحقوق والحريات.
وقد تدوم الحاجة إلى الوحدة الوطنية في ظل الديمقراطية بضع سنوات. إنّ عدم تنفيذ هذه الخطوات قد يحوّل الانتخابات في المرحلة الانتقالية إلى فوضى وتآمر مع ضباط طموحين في الجيش ومع النظام القديم، ما يؤدي غالبًا إلى انقلاب عسكري. والجميع يعرف أنّ التجارب الديمقراطية في السودان انتهت إلى انقلابات عسكريّة.
3- وأخيرًا، يجب أن يكون واضحًا أنّ الديمقراطية، بمؤسساتها وإجراءاتها ومبادئها، ليست بحدّ ذاتها حلّا للمشكلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي يعاني منها أي بلد، فهي تقدم حلولًا لقضايا حقوق الإنسان والمواطن ولإدارة الصراعات بطرقٍ سلميّة عبر المؤسسات. أمّا القضايا الاجتماعيّة والاقتصاديّة فترتبط بالسياسات الاقتصاديّة للحكام، سواء أكانوا في نظام ديمقراطي أو غير ديمقراطي، كما ترتبط أيضا ببنية البلد الاقتصادية الاجتماعيّة وعلاقاته الخارجيّة، وقدرة الحكام على تجنيد استثمارات ومساعدات للنهوض بالاقتصاد، وسد حاجات الناس في الفترة الانتقالية، قبل إصلاح الاقتصاد، ليصبح قادرا على إعالة المجتمع والدولة، سواء أكانت إصلاحات في الزراعة أو الخدمات أو توزيع الدخل أو غيرها. وثمّة خلافاتٌ لا تحسمها الديمقراطية بحد ذاتها، بل تحسم في إطارها، مثل الخلاف حول الفرق بين النمو وتوزيع ثماره بشكل عادل، وبين النمو والتنمية وغيرها، فهذا يتعلّق بطبيعة القوى السياسية/ الاجتماعية الحاكمة وسياساتها. ولكن الأمر الواضح بالنّسبة لي، وللعديد من الباحثين في مختلف أنحاء العالم، أنّه إذا نشأت الديمقراطية، فإنّه يصعب أن تصمد وتستقر في ظروف نسب نمو منخفضة، وظروفٍ معيشيّة صعبة للمواطنين. ولكي لا ننسج أوهامًا، ونبني قصورًا على الرمال، ونخلق توقعاتٍ مبالغًا فيها يتبعها خيبات أمل تصبح تربة خصبة للثورة المضادّة، يجب أن تصارح القوى الديمقراطيّة الجمهور بهذه الحقائق.
لقد آن أوان التغيير في السودان، لا شكّ في ذلك، ومن الأفضل للجميع أن يُدرك النظام نفسه هذه الحقيقة، ولا يقل أهميّة عن ذلك أن تُدرك قوى التغيير، سواء أكانت حزبيّة معارضة أم شعبية، دروس الثورات العربيّة الأخرى.
عذراً التعليقات مغلقة