السرد في الشعر.. قصيدة “وردة سوزان البيضاء” للشاعر عبد القادر الحصني أنموذجاً(1)
اتبع الكثير من النقاد المغالاة في التمييز بين السرد والشعر على أساس أن الصفة الغنائية التي تميز النص الشعري تقصي بالضرورة عنصر الحكائية منه، فيما يرى بعض النقاد المعاصرين أن حركة الحداثة الشعرية خرقت هذا المبدأ، عندما أنتج روادها نصوصاً شعرية تتضمن عنصر القص الذي يمثل جوهر العملية السردية، وبالتالي اشتملت هذه النصوص الحداثية على درامية (بمعنى ما) وضعتها في خانة الشعر السردي.
ومما لا شك فيه أن عنصر القص لم يكن في يوم من الأيام غائباً عن النص الشعري العربي، قديمه وحديثه، وأن الشعر العربي لم يأخذ يوماً بثلاثية أرسطو القائمة على التمييز في نظرية الأدب بين ثلاثة أنواع من المحاكاة تنتج أجناساً أدبية غنائية أو درامية أو ملحمية, ونعتقد أن النصوص الشعرية العربية التي يمكن إدراجها بحديّة خالصة تحت كل نوع من هذه الأنواع نصوص قليلة جداً، ولا يمكن مع قلة عددها اعتبار هذا التقسيم في الأدب العربي ظاهرة يمكن الركون إليها عند الناقد الحصيف.
إن في الكثير الكثير من قصائد الشعر العربي ـ نذكر تائية ابن الفارض المسماة (نظم السلوك) مثالاً ـ شواهد أكيدة على اجتماع عناصر غنائيتها ودراميتها وملحميتها، وتآلف هذه العناصر داخل النسيج الشعري لكل قصيدة من هذه القصائد، ولم يخرج الأسلوب الشعري العربي في العصور كلها عن سنة المزج الخلاق هذه، ولنا في قصائد السموءل والمتنبي وأبي فراس وأبي تمام وديك الجن الحمصي ومن تبعهم إلى يومنا هذا من الشعراء العرب شواهد وأدلة أخرى تصل بالمتشكك إلى اليقين بوجود عنصر القص في معظم النصوص الشعرية العربية بنسب متفاوتة.
ولعلنا نتفق مع الدكتور حاتم الصكر في أن الرؤية الدرامية التي تقوم على الخطة السردية البنائية لم تكن ظاهرة بالمعنى الدقيق لها في الشعر العربي قبل موجة الحداثة الشعرية، “فالدرامية ليست انفعالاً عابراً وسريعاً، وبالتالي لا تنتج لغة ذات هيجانات عاطفية متكررة، وصور مستهلكة ذات دلالات شائعة، تستفيد من ترسيخها في المتلقي من خلال النوع نفسه، بل هي توتر يكون سبباً في إفراز غنى وامتلاء صوتي، وتصويري وتعبيري، على مستوى الشعور والوعي، كما تفرز الدرامية على مستوى الحدث وأفعال السرد، سلسلة من المواقف والحالات، وتحدد ضمائر السرد، وتعيينات الزمان والمكان.(2)
إلا أن اتفاقنا مع هذا الرأي لا يغير من حقيقة أننا لا نبحث عن اندماج السرد بالشعر، مما ينتج والحال هكذا نوعاً أدبياً جديداً ليس شعراً وليس سرداً، إن ما نحن بصدد البحث عنه هو صدى السردي في الشعري، لأن النص الشعري “وإن تداخل مع السردي لا يتبنى خطاباً سردياً متكاملاً، ربما يشي ببعض عناصر السرد أو يوحي ببعضها الآخر، ولكن عادة ما تكون تلك العناصر متقطعة، أي محدودة النمو ومنحسرة التفاعل بسبب من طبيعة القصد الإيحائي للشعر”.(3)
إن استخدام تقنيات السرد في الشعر العربي لم يرتق إلى درجة اتخاذ هذه التقنيات كوظائف بنائية رئيسية في إنتاج النص الشعري إلا مع موجة الحداثة الشعرية، إلا أن مجرد تداخل السردي بالشعري يعد دليلاً كافياً على وعي الشعراء بأهمية التقنيات السردية ودورها في التخفيف من ذاتية الشعر و الخروج به من حيز الاستعارية إلى مقاربة الكنائية.
وفي هذا المضمار تمثل قصيدة “وردة سوزان البيضاء” للشاعر السوري عبد القادر الحصني نصاً أسطورياً جديداً ذا رؤية غرائبية يقف السرد الشعري في موقع المركز منها.
وإذ نختار هذا النص في هذه المقاربة المكثفة فلأن السرد الذي ينبني وفق خطته، إنما يحفل بتقنيات كثيرة ومتنوعة تصلح لتناولها بالدراسة والتحليل، للتدليل على مدى التداخل بين السردي والشعري في القصيدة العربية المعاصرة، ومدى الجماليات التي يمنحها هذا التداخل للنص الشعري.
تروي القصيدة قصة غرائبية متخيلة عن حضور الشاعر عرساً للجان، مع ما يتيحه هذا التضعيف (العرس ـ الجن) في توقع الدهشة من إمكانيات تتيح للنص الانفتاح على عوالم متخيلة تقترب في أسطوريتها وعجائبيتها من الأساطير القديمة التي يحفل تاريخ المحكيات العربية بها.
وإذ يسير السرد في القصيدة وفق نسق خطي أفقي، فإن الشاعر عبر الانفتاح على محكيات صغرى، ومشاهد وصفية، وحوارات خاطفة، وأنساق تكرارية، يكسر الخطيّة و يترك لسرد التوازي أن ينتقل بالنص إلى علاقات لغوية تركيبية على المستوى النحوي، تقوم على المزج بين التنويعات والمتغيرات من جهة، والثوابت السردية من جهة ثانية، ويتم هذا المزج من خلال آليات مختلفة كالتشبيه والاستعارة والمثل والتضاد والمقارنة، وهذه الآليات تحقق للبنية السردية للقصيدة إمكانية إزاحة العلاقات المتعارف عليها لغوياً على مستوى الدلالة الزمانية والمكانية، لتحل مكانها علاقات فنية أكثر حركية، يمكن معها تكرار الوظيفة السردية أو الشعرية الواحدة بشكل غير محدد، دون الاعتماد على صيغة مسيطرة واحدة، ويمكننا ملاحظة نمطين من أنماط سرد التوازي في بنية القصيدة:
1ـ بنى سردية لاحقة تشبه بنى سردية سابقة، وهي قليلة العدد، إذ لم تتكرر إلا مرة واحدة في النص، وهذه البنية تتمثل في قول الشاعر:
أين الكذابات اللاتي قلن سيعصرن الخمر، فهذي
ساقيةٌ من خمرٍ تتدفق قربي: خذ هذا الدّنَّ الفارغ
هات الملآنْ.
2ـ بنى سردية لاحقة متجاورة ومكملة لبنى سردية سابقة، وهذا النمط من التوازي استخدمه الشاعر مرات عدة في القصيدة، ومن أمثلته هذا المقطع:
فهنالك في المعبد أعمدة قاسية، وأنا لم أعتد
أن أترنح إلا بين الأعمدة اللينة،
وليس يليق بسكير مثلي
أن يتطوح قدام الكهنةِ،
إذ قدام الكهنة يختلف الأمر…
وهذا المقطع يعاد تركيبه بمقطع جديد من منظور سرد التوازي ليقيم تجاوراً مع المقطع السابق أو الأصلي، بغية أكمال البنية السردية التي قطعها الشاعر بمقطع حواري، ليعود ويكمل هذه البنية من جديد بالمقطع التالي:
فالأمر أمام الكهنة مختلفٌ، وإلى الآنْ
لم يعرف أحدٌ من سيكون القربانْ.
كما يمكن تلمس العناصر السردية التالية في القصيدة:
آ ـ التنويع في استخدام الضمائر، من المتكلم المفرد إلى المتكلم بصيغة الجمع، إلى الغائب والمخاطب، ويمكن أن نلاحظ هذا التنويع من المقطع الأول في النص، وحتى نهايته:
كيف إذا شاهدتُ نساءً، يعبرن بأطباق القشِّ
الملأى بالعنب الذهبيّ، وهنَّ يغنين، ويضحكن،
ويغمزن: تعالْ.
ــ تعال إلى العرس، سنعصر خمراً في الوادي
للمدعوين، وللمدعوات، ومدعوٌ أنتَ.
تفتح عطشٌ فوق شفاهي،
ثم اضطربت قطعة خشبٍ يابسةٍ في صدري،
كانت في أيام الريّ على شكل القلبِ…
ب ـ الوصف: فالنص باعتباره نصاً يحكي قصة عجائبية، اعتنى بوصف المكان والشخصيات، ففي وصف الشاعر لوادي الجان حيث أقيم العرس المزعوم يقول الشاعر:
كان الوادي أقرب من زاوية الشيخ إلى أهل الخطوة،
قل إنك حدّرت خطاك “بنزلة رامي” فإذا
أنت بوسط “المرجة”.
كان الوادي مثل الفرجة: طبلاً ومزاميرَ
وأشجاراً ترقص حول حفافي النهرِ…
أما في وصفه للشخصيات فإن الشاعر يضفي على الصبايا في العرس أوصافاً تتوافق مع طبيعة المكان والحدث وكون الشخصيات بحد ذاتها من الجان، يقول الشاعر:
وشدَّت قدميَّ وراء النسوة أحداقٌ عسلٌ
وعيونٌ مثل الخمارات، وأفواهٌ مثل الأجراس الذهبيةِ
حين تزغرد في بستان من أزهار الليمونْ.
ج ـ مشهدية السرد: إذ عمد الشاعر إلى بناء مشاهد سردية ليقيم نوعاً من التكافؤ بين زمن السرد وزمن القصة المروية، مما ساعد النص على التأكيد على الحدث لحظة فلحظة، ومكنه بالتالي من العناية بتفصيل وقائع معينة أراد الشاعر التركيز عليها، مما يقتضي من الشاعر استخدام الأفعال بصيغة الزمن الحاضر في المشهدية لقدرتها على وصف راهنية الحدث، وهذا ما نجده في المقطع التالي:
وتصور أن يتدافع من حولك عشرات النسوان،
وتتعب شفتاك، وتعيا من قطف الأوراق ذراعاكَ
فترحمك وتدنو بالورق الأغصانْ.
د ـ الحوار: يقوم الحوار في قصيدة وردة سوزان البيضاء على لغة بسيطة وسهلة، وعلى جمل قصيرة يجري تضمينها في سياق النص بسلاسة، بحيث لا يؤدي إلى قطع تدفق السرد في القصيدة، في الوقت الذي ساهم في تركيز التوتر الذي دفع الحبكة إلى الأمام، وقد استخدم الشاعر أيضاً تقنية الحوار الداخلي، في المقاطع التي أراد شحنها بدلالات تأملية، أو بما يشبه المناجاة، يقول الشاعر:
ــ هلما بي من قصر البلور، ولوذا بالقوس اليمنى
من ساحة باب القديسة توما
ــ توما قديس ذكرٌ يامولاي.
ــ حسنٌ .. من ساحة توما، فانعطفا وانسربا…
فإذاً نادوني بالتاجر .. تاجر ورق التوت
عليكم أن يتقدم أحدٌ منكم..
ــ نحن مثنى يامولاي.
ــ حسنٌ .. فليتقدم أحد الإثنين، ويفتح فاهُ..
هذه كانت قراءة عجلى في بنية السرد في هذا النص الشعري الذي نجد في الشعر العربي المعاصر نماذج كثيرة تتبع بقدر أو بآخر خطته السردية، في تأكيد على عمق تأثير المرويات وفنياتها في جديد الشعر العربي.
هوامش:
(1) ـ قصيدة للشاعر السوري عبد القادر الحصني، من مجموعة (ماء الياقوت) ـ منشورات مركز الإنماء الحضاري ـ ط2 ـ 1998م ـ وجميع الشواهد الشعرية مأخوذة من هذه الطبعة.
(2) ـ د. حاتم الصكر ـ مرايا نرسيس ـ المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ـ بيروت ـ 1999م ـ ص 30 ـ31.
(3) ـ د. بشرى موسى صالح ـ مقالة بعنوان: تداخل الشعري والسردي ـ منشورة على موقع iraqiartist.Com www. على شبكة الانترنت
الشاعر عبد القادر الحصني في سطور
- أحد أبرز الشعراء السوريين والعرب المعاصرين.
- من مواليد مدينة حمص في العام 1953.
- عمل سكرتير تحرير لمجلة الثقافة السورية وأمين سر لجمعية الشعر باتحاد الكتاب العرب بدمشق ورئيس تحرير لدوريات الاتحاد.
- صدر له العديد من المجموعات الشعرية أبرزها: بالنار على جسد غيمة في العام 1976، الشجرة وعشق آخر، العام 1980، ماء الياقوت، في العام 1998، ينام في الأيقونة، العام 2000، سارقو النار، العام 2014.
- صدر له مجموعة قصص للأطفال بعنوان: علاء الدين وسر المدينة النائمة في العام 1985.
عذراً التعليقات مغلقة