وُجوه ..
بإحساس ٍ باذخٍ، ومشاعر فيّاضةٍ دافئة، وروحٍ شعرية نبيلةٍ، وتصويرٍ موحٍ مندغمٍ بالطبيعةِ، زاخمٍ بالخيال والعاطفة، يشرع الشاعر السوري عماد الدين موسى بتشكيل نصوصه الهامسة كماء الحنين على شفاه المرافئ البعيدة عن الوطن، إنه يغني، ولكن:
لا طائر هذا الصباح
يصغي إلى غيابكَ
وأنتَ تودّع المراكب مدندناً
لاسماء ترنو إلى ماء حنينكَ العذب
أو يدنو عندليبٌ ما
من أثر القبلات ِ على شفاه مرافئكَ
وما من شجرةٍ تعلو
لتظلّلَ صغارَ عطشك..
ذات يومٍ حالمٍ بالشمس والزقزقاتِ من العام 1981 وفي أقصى الشمال الشرقي من سوريا في بلدة عامودا، ولد الشاعر عماد الدين موسى، فكان الابن الأصغر لدجلة وآخر فردٍ من عائلة الأنهار، لذلك أسبغَ عليه دجلة كل ما تحمله ضفافه من بساتين وعصافير وجداول ومياه وزقزقات، و حينما كتب الشعر، كان يغمس ريشته في ماء النهر ويكتب قصائد بلون الماء.
وهو أيضاً صحفي يكتب وينشر في الجرائد والمواقع الالكترونية كجريدة العربي اللندنية والعربي الجديد، وضفة ثالثة، وغيرها الكثير.
وقد شغل رئاسة تحرير مجلة أبابيل الشعرية منذ تأسييها ولغاية العام 2014، وهو عضو المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين.
وللشاعر والصحفي عماد الدين موسى يد بيضاء على أجيال من الشعراء السوريين، ولا سيما جيل التسعينات منهم، حيث ساهم بشكل فعال في تقديمهم نقدياً وإعلامياً على المنابر الأدبية والإعلامية التي تولى إدارتها، وبشكل خاص في مجلة أبابيل.
صدرت له ثلاث مجموعات:
- حياتي زورق مثقوب في العام 2015 منشورات المتوسط.
- ثم.. كسماءٍ أخيرة، في ذات العام عن دار فضاءات الأردن.
- وأخيراً: أن تتعطر بقليلٍ من البارود، في العام 2016، عن دار مخطوطات.
وتشترك مجموعاته الثلاث المذكورة بصفةّ هامةٍ تميز طبيعة تجربة الشاعر الذي أرخى عليها همس روحه وشفافبتها وصفائها، فكانت قصائد كل مجموعة عبارة عن بوحٍ عذبٍ، بوح إنسانيّ مرهف، ولكنه منكسرٌ، كما واقع بلاده.
ها هو يبوح حزيناً من هجرة الأهل والأحبة بعيداً عن الوطن رامزاً إليهم بكلمة العصفور:
على قلقٍ ينتظر الحارسُ مجيئك ِ
لئلا تذبل َ الحديقة
دفعةً واحدة..
ونصوص عماد تقول القليل وتوحي بالكثير، عبر نزوعٍ واعٍ ومقصودٍ نحو الاختزال اللفظي مع تحميل الألفاظ تلك لمساقاتٍ دلاليةٍ وإيحائية وفكرية بعيدة، فهو لا يقول كل شيء دفعةً واحدة، إنما يترك المجال واسعاً للمتلقي لإعادة إنتاج النص وتأويله ذائقياً ومعرفياً، يقول:
اتركوا لنا الهواء َ
لأجل الرئتين البريئتين
لأجل الصراخ …
والجليُّ في نصوصه أيضاً، ذلك الإحساس الحاد بالغربة المزدوجة، الغربة الجغرافية المكانية، والروحية، حيث يتناول عذابات الإنسان الذي جاء إلى هذه الحياة دون إرادة منه، وما يكابده من غربة وقلق ومنفى وحروب بآثارها المدمرة للروح والجسد والذاكرة، حاله كحال موجةٍ تدفعها الريح في عرض البحر الشاسع، ويمضي باحثاً عن شاطئ يلقي عليه كل أحماله من همومٍ وجراح، يكون برّاً للأمان والسعادة والحرية، ولكن دون جدوى، فينادي:
أيتها الموجة
أبتها الموجة التي ربما
دفعتها الرّيح لارتكاب هكذا حماقة ..
ها أنا ذا أغرقُ وكذلك أنتِ
وما من مرفأ…
ولعلّ أكثر مايلفت الاهتمام في نتاجه الابداعي ككل هو الحضور الوافر لعناصر الطبيعة وكائناتها ومفرداتها، (الأشجار، الغابة، الحديقة، الأغصان، العصافير، المياه، الأنهار والزقزقة).
وهي رموزٌ تدلّ على المرموز إليه (الحياة)، ولعلّ تكرار هذه الرموز دلالة على ضمور المرموز إليه وضيق مساحته في واقع الشاعر حيث الحرب دائرة رحاها والقتل في كل مكان من بلده.
طائر ما لا اسم له
يتذكر شجرةً ما لا اسم لها
حيث الحربُ الطاحنة
تأخذ معها كل الأشياء
هنا كلّ الأشياء فقدت أقدامها
وحده ُ الدّم يجري
بأقدامٍ كثيرة ..
كما تحضر الرمزية في نصوصه بشكل لطيفٍ بعيداً عن مجافاة نيلِ المعنى مستمراً في توظيف كائنات الطبيعة وعناصرها، حيث تتكرر ألفاظ (الغابة والحديقة والشجرة) التي يستخدمها كرمز للوطن والإقامة والملاذ، بمقابل مفردة (العصفور والطير)، وهما رمزٌ للانسان والمواطن، فموطن العصفور هو الشجرة حيث يستظلّ من الحرّ، ويأوي إليه عند الغروب كي ينام.
ومن موضوعاته أيضاً قضايا كبرى وجودية كالحياة والموت والوجود والعدم، وحتمية الزوال والنهاية، حيث تناولها برؤية فلسفية تبرز قلقه الروحي، فأتت نصوصه في هذا الإطار كصدى لفلسفةٍ إنسانية، يقول هامساً:
الأشياء بموسيقاها الهادئة
إلى زوالٍ محتمٍ
والكائن كذلك…
ولطالما تساءل:
تُرى ماالذي سيفعله الفجر
إن استيقظ غداً
دون عصافير…أو غصن
وشغلت الحرية حيزاً واضحاً من نتاجه، حيث يبرز أمله العنيد في انتصارها على أعدائها بالرغم من الظروف الصعبة والدرب الطويل:
ستظلّ الشجرة
تعاندُ الخريفَ
في انتظارك…
ويستخدم شاعرنا تقنيات الومضة الشعرية والهايكو، فيبرع محققاً عنصر الإدهاش بكفاءة:
الغصنُ ذاته شديد الإزهار ِ
هذه السنة أيضاً..
الغصن الذي لمستِه بإصبعكِ.
وبفعل الحرب النازلة بأهل وطنه من أعداء الحياة والحرية والتسامح، اضطروا لمغادرة الوطن قسراً، فحملوه طيّ قلوبهم بما فيه من ذكرياتٍ وملاعب صبا وأغنيات، على أمل عودةٍ أكيدةٍ ذات ربيعٍ كالعصفور بعد هجرة مؤقتة، فيقول:
في الحربِ لاتموتُ الأشجارُ
كل ّعصفورٍ،
يخبّئُ في قلبه شجرةً ويمضي…
عذراً التعليقات مغلقة