أيام قليلة مضت على انتهاء عام حمل في طياته كثيراً من الأحداث،
فمن إعلان ترامب قراره الأخير الخاص بالانسحاب من سورية، وسياساته والانفجارات الشعبية التي خرجت هنا وهناك في السودان وفرنسا والأردن
ولبنان والعراق وغيرها، يمكن لنا أن نستشرف أن عام 2019 لن يكون مريحاً وإيجابياً، بل سيكون عاماً صعباً على السوريين والشعوب المطالبة بحقوقها، وسنشهد المزيد من الانفجارات الشعبية في إطار نضال هذه الشعوب لتصل إلى حقوقها المنهوبة.
يمكن أن نرى في قرار ترامب، الذي أعلنه على شكل تغريدة، الشكل الأوضح للرأسمالية المتوحشة في طورها الجديد، حيث البحث الدائم عن المصالح الاقتصادية، بغض النظر عن مدى تأثيرها على الشعوب والحلفاء، وبغض النظر عن أخلاقيتها، وترسيخ النهج الترامبي – إن صح التعبير – للنهج السلطوي الاستبدادي، بعيداً عن منطق العمل المؤسساتي؛ فالقرار كان فردياً من دون العودة إلى مؤسسات الدولة الأمريكية ومشاورتها، ما أدى كما نعرف إلى استقالة وزير الدفاع الأمريكي احتجاجاً على القرار.
لم يتوقف ترامب عند ذلك فحسب، بل إنه لم يحصل على مشورة حلفائه أيضاً، وفوجئ الفرنسيون بالقرار وأصابهم الارتباك، فتارة تخرج تصريحات بعدم انسحابهم، وتارة أخرى تخرج تصريحات بمغادرتهم. كما فوجئ المتطرفون الأكراد “البي كا كا والبي واي دي” بقرار ترامب، الذي كان ينظر لهم بوصفهم ميليشيا محلية التزم معها بعقد بهدف قتال “داعش”، من دون أن يتطور الأمر أكثر من ذلك؛ فهو لم يعدهم بقيام دولة كردية، بل لقد أكدت التصريحات الأمريكية على الدوام على وحدة سوريا.
أعمى التطرف وحب السلطة القيادت الكردية، فاستقووا بأمريكا على شعبهم السوري، والتفوا على ثورته، واعتقلوا وصفوا كوادر الثورة وكل معارضيهم، وفعلوا ما تفعله الأنظمة المستبدة، والنتيجة أن قراءتهم الخاطئة حول استمرار الخارج في دعمهم، جعلتهم فريسة للخذلان والإرباك، فهرعوا نحو النظام للاستقواء به لكنه لم يستجب لهم، بل طلب منهم العودة إلى بيت الطاعة صاغرين، فوقعوا في حيرة من أمرهم، وأخذوا يبحثون عن طريقة للحفاظ على المكتسبات التي حققوها بفضل الدعم الأمريكي الذي سيتوقف بعد قرار ترامب.
يمكن لنا أن نذكر كيف صنعت الولايات المتحدة الأمريكية تنظيم القاعدة ودعمته ومولته في عقد مؤقت مقابل إغراق الاتحاد السوفيتي السابق في أفغانستان، ثم استعملته فزاعة وذريعة لتفرض نفوذها هنا وهناك، حامية أنظمتها المستبدة القاتلة التي تدعم مصالحها الاقتصادية، ومستمرة في نهبها لثروات الشعوب.
لقد تشكل التحالف الدولي بذريعة محاربة تنظيم “داعش” الإرهابي الخارج من عباءة تنظيم القاعدة، الذي أثبت جميع المحلين العسكريين المختصين أنه يشبه شركة مساهمة شاركت في صناعتها الكثير من أجهزة المخابرات في العالم، وعلى رأسها مخابرات الأسد وإيران. ونذكر كيف سمح لهم نظام المالكي في العراق بالاستيلاء على الموصل خلال ساعات، وترك لهم الأموال الطائلة في البنوك العراقية والأسلحة والمعدات الحديثة المكدسة في المخازن، وكيف أخرج نظاما الأسد والمالكي الإرهابيين من سجونهم في سبيل تشويه صورة الثورة المطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية.
لم يكن “داعش” لينشأ كتنظيم لولا وجود أرضية فكرية – ولو بالحد الأدنى – جاهزة لاستقباله، ثم ساهم القمع الكبير والإجرام بحق الشعوب، وإحساسهم بالغبن، في دفع الكثير من البسطاء إلى تأييد هذا التنظيم في بدايته، والقتال تحت رايته، بعد أن خُدعوا بالشعارات الإسلامية وشاهدوا النجاحات العسكرية السريعة التي حققها التنظيم الإرهابي على نظامي المالكي والأسد، القامعين لشعوبهم.
لقد تعلمنا في مدارسنا التمسك بالتاريخ والأمجاد العسكرية، واعتبارهما المثل والقدوة، ولم نتعلم الاقتداء بالتقدم العلمي والحضاري، ودرسنا مساهمات قوى الإسلام السياسي التي بنيت على أمجاد العقلية الإمبراطورية التي حاربتها، وامتدت سيطرتها لتشمل مساحات كبيرة من العالم القديم، ولم ندرس في المدارس التقدم العلمي ونتعلم أن الحضارة تبنى على العلوم المختلفة – العلوم التطبيقية والإنسانية – ولا تبنى على القتل والتدمير والاحتلال.
لقد بُعث محمد عليه أفضل الصلاة والسلام داعياً إلى إتمام مكارم الأخلاق، عبر نبذ العقلية القبلية والانتقال إلى التوحيد بمعناه الأسمى، أي الإيمان بوجود خالق لجميع الناس هم جميعاً عبيد له وسواسية أمامه، وبأن الله سبحانه وتعالى جعل الناس شعوباً وقبائل ليتعارفوا، وخلق الصراع والتدافع ليحمي حرية الفكر والعبادة، فبدأ بالحديث عن المهاجرين أنهم “أخرجوا من ديارهم بغير حق، إلا أن يقولوا ربنا الله”، أي أنهم أصحاب فكر وقمعوا بسبب فكرهم، ثم ينتقل ربنا سبحانه وتعالى للحديث أنه ” لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً”، فوظف الصراع في خدمة حرية التفكير والعبادة.
إذاً “داعش” والإرهاب صناعة خارجية استثمرت في مكوناتنا الفكرية، بهدف تدمير حلم الشعوب بالاستقلال الحقيقي عن قوى الاستغلال ووكلائها من المستبدين المحليين، فالرأسمالية المتوحشة تريدنا متفرقين متقاتلين من أجل سرقة ونهب مقدراتنا، ونحتاج جميعاً كسوريين وكشعوب مضطهدة إلى مزيد من التضامن والإيمان بالديمقراطية والوطنية بشكل حقيقي وليس عبر الشعارات، كما نحتاج أيضاً إلى نشر الوعي واللجوء إلى الحوار والاحتكام إليه، لمنع أي قوة خارجية من استغلال خلافاتنا لتحقيق مصالحها على حساب تدمير وطننا ونهب ثرواته، وما لم نصل جميعاً إلى هذه النتيجة فإن عام 2019 قد يكون مظلماً ومدمراً لما بقي لنا من أمل.
عذراً التعليقات مغلقة