ملاحظات على هامش الجرْد السنوي للقراءة

مصطفى عباس1 يناير 2019آخر تحديث :
مصطفى عباس

مصطفى عباس

جرت العادة أن تجري المحلات التجارية جرداً سنوياً للبضائع الموجودة، لمعرفة نسبة الأرباح، فضلاً عن تخفيض أسعار بعض المنتجات
لبيعها قبل حلول العام الجديد، وهذا شيء جميل ومفيد على الصعيد
الاقتصادي، ولكن الأجمل هو أن يجري المرء جرداً سنوياً لقراءاته من
الكتب خلال عام، وبالتالي يخطط لما ينقصه من كتب يمكن أن يقرأها
في العام القادم، أو حتى في سنوات مقبلة.

وقد درجت هذه العادة حديثاً، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث ينشر العديد من القرّاء- على قلتهم- ما قرؤوه خلال السنة المنصرمة. صحيح أن البعض يدرج هذا السلوك تحت بند المراءاة، ولكني أراه مهماً في ظل الانحسار المريع في مستويات القراءة، بينما تسيطر على الساحة شبكات التواصل التي ترسّخ السطحية، حتى بات أحدنا يضيق ذرعاً بقراءة بضع سطور، لذلك أؤيد هذا السلوك، عله يشجع من كان يحب القراءة لكنه يهدر معظم وقته على مقع فيس بوك.

قبل عامين كتبت مقالاً تحت عنوان ” القراءة كتعويض عن الهزائم”. كنت قد عدت حديثاً  إلى القراءة بعد شبه انقطاع دام سنوات، وقرأت بضعاً وعشرين كتاباً من الكتب الإلكترونية المتوفرة مجاناً على شبكة الانترنت، وما زلت على المنوال نفسه. صحيح أن قراءاتي تضاعفت كثيراً، لكن كلما اتسعت دائرة العلم، اتسعت معها دائرة الجهل، وكأن هنالك تناسباً طردياً بين الاثنتين، وكلما قرأت أكثر، كلما تعرفت إلى كتب ومؤلفين لمّا تقرأْ لهم بعد. يشبه القارئ شخصاً يشرب ماء البحر، كلما شرب ازداد عطشاً.

لن أتكلم عن الكتب التي قرأتها، فقد كتبت مراجعات لكتب وروايات كثيرة، لكن استوقفني هذا العام نقطتان. النقطة الأولى أن هناك كتباً قرأتها وتعبت بسببها ذهنياً ونفسياً،ولكني لم أحصل منها إلا على ما يحصل عليه السهم من الرمية. وبالطبع فقد حاولت قراءة بعضها مرة ثانية، ولكن هيهات في ظل الكم الكبير من المؤلفات التي تنتظر دورها على خشبة الاحتياط.

وهنا نقطة غاية في الأهمية؛ فبعض الكتّاب المشهورون الذين لا أدري لمن يكتبون، يريدون أن يصعد القارئ البسيط إلى برجهم العاجي المرصع بكل مصطلحات التاريخ، فضلاً عن المصطلحات التي يخترعونها. وأنا هنا أتكلم عن الكتّاب الذين ذاع صيتهم، الذين يعون ما يكتبون، لكنهم لا يدركون أن القارئ غير قادر على فهمهم، ناهيك عن الكتّاب الذين لا يعرفون هدفهم من الكتابة.

هذا النوع من الكتابة التي يصفها البعض بـ “العميقة”، فضلاً عن أنها تعكس في بعض الأحيان تعقيداً في شخصية مؤلفها، فهي تفقد الكتابة أحد أهم وظائفها، ألا وهي التثقيف، فالكاتب لا يكتب إلا بغية رفع السوية الثقافية والمعرفية للقارئ، إضافة إلى إمتاعه. أما لغة المصطلحات، فجمهورها نخبوي، أضف إلى ذلك أن هذه اللغة قد تكون في بعض الأحيان حمالة أوجه، وبالتالي تضع القارئ في دوامة من الاحتمالات.

يقول الروائي الكبير حنا مينا في روايته “عاهرة ونصف مجنون” إنه في الثمانينيات كان صاحب نبوءة أن الرواية ستصبح ديوان العرب، وتحتل مكانة الشعر. وبالفعل أصبحت الرواية اليوم صاحبة المكانة الأهم بين أنواع الأدب، بعد أن قلّ ذواقة الشعر بشكل كبير، ناهيك عن غياب الشعراء، أو اتجاههم إلى كتابة الرواية.

أريد هنا أن أسلط الضوء على كثير من الكتّاب الذين اتجهوا إلى كتابة الرواية دون إحاطة بقواعد العمل الروائي، معتمدين على سرد الأحداث كتقنية وحيدة، متجاهلين تقديم فكرة أو مغزى للقارئ، في ظل غياب الحبكة الدرامية التي يجيد كتابتها الروائيون المحترفون وحدهم.

نحن في حاجة ماسة إلى الكتاب والروائيين من أجل توثيق التاريخ، إضافة إلى ما عانيناه من إجرام ومآسٍ ونكبات، نفذها بحقنا نظام طائفي يتسلح بدعم دولي حقيقي. نعم نحن بحاجة إلى التوثيق كي لا “نموت دون أن ندق الجدران”، كما يقول غسان كنفاني في رائعته “رجال حول الشمس”. وما جرى في نكبة فلسطين يعيده التاريخ بحذافيره في النكبة السورية، لكن سوريا لا تمتلك غسان كنفاني آخر، في الوقت الذي بات فيه ناشطو الثورة السورية يقدمون أنفسهم كصحفيين وكتاب، في ظل ندرة الأقلام الحقيقية.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل