تُغلق سوريّة أبواب العام الجاري على استهدافاتٍ عسكريّةٍ للعدو الإسرائيلي يوم “عيد الميلاد”، ومن محيط دمشق تنقل قناة تابعة للنظام لحظات قالت إنها “أثناء الردّ على الاستهداف إياه”! يفرح السّوري في كلّ مكان بالدّاخل، أنّ هناك انجاز قد حدث في حرب الخيبات والتّمزيق الاجتماعي والإنساني الواقعة على حياتنا، فينسى النّاس أزمة الغاز والغلاء والضرائب والهموم المتعلقة بكرامتهم واستحقاقاتهم احتفالاً “بالنصر” على الإرهاب!
هي ذات الحُجّة القاتلة لكلّ صوت “إنهم يناضلون ضد العدو” ولكن لا نعرف ما هوية هذا العدو إذا كانت روسيا حليفة النّظام وإسرائيل في آن تأخذ الإشارة طبوغرافيّا قبيل استهداف الطيران الإسرائيلي لموقع في الداخل السوري، يرجح أنّها تابعة لمليشيات إيران. وعندها يتّضح أنّ المؤامرة هي ضد الإنسان السّوريّ وطموحه بالخلاص من الهزيمة الداخلية المستمرة.
بالتّوازي مع ذلك، تكلّف شركة الاتصالات الخلوية “سيرتيل” أحد الممثلين في الدراما السوريّة، الموالين للأسد، من أجل لفت انتباه النّاس إلى جوائز في برنامج مُتلفز يستضيف مشاهر من الفن مِمّن يتوافقون وتوجهات النّظام، يشتغل السّحب -لا ندري أي نوع من السّحب! – على حد زعم الشركة، وسط البذخ في الديكور والتصوير البرامجي المُكلف، تبدو شركة الخليوي تلك، وقد دمغت كلّ شي على الشاشة باسمها، لترسيخ شراكتها وفرائضها بالحياة اليوميّة على أهل الداخل.
تُصرف الجوائز المزعومة باللّيرة السوريّة واللّيرات الذهبيّة وبعض السّيارات ودقائق الاتصال المجانيّة وتقدم أجهزة الهواتف الخلوية الجديدة (…) كلّ هذا تقدمه الشركة في برنامج متعلق بالدفع “كاش” لمن يشترك برسالة قصيرة. ومنذ أيام انطلق هذا البرامج كمحاولة لامتصاص مشاغل النّاس والكوارث اليوميّة الّتي يعاني منها الشّارع السّوري بداية من أزمة الخدمة الإجباريّة ورعبها في جيش النّظام وصولاً لعمليات تصفية المعتقلين وأزمات تقنين الخدمات كالماء والغاز والكهرباء. إذ لا مبرر لدى النّظام الآن بقصف خطوط غاز أو غيرها، لأنّ كلّ المناطق تقريباً أصبحت تحت يد روسيا وإيران، والهدف المباشر على ما يبدو هو إعادة تربية الكرامة للسوري حسب مقاسات الخضوع والخنوع الأمنيّ. بالتالي يتم استثمار جيوب المواطنين بدفع ضرائب مُضافة أيضاً تحت مُسمّيات “المجهود الحربي وإعادة الإعمار” ليتم تقديم “كفّارة” من شركة الخليوي إياها، لهؤلاء النّاس وتخديرهم واشغالهم بحضور نجوم الشّاشة والأضواء والأغاني وبعض الدراهم المسروقة أصلاً من حقوقهم وجيوبهم إلى خزائن شركات العائلة الحاكمة.
هنا أتذكر جزءاً من كلام القاضي الفرنسي “إتين دي لابويسيه” حول ما تقوم به الأنظمة للهيمنة على أوقات الشعوب: “الألعاب والمساخر الغريبة والميداليات، كانت لدى الشعوب القديمة طُعْمُ عبوديتها، وثمن حريّتها، وأدوات الاستبداد بها. هذه الوسيلة وهذا المنهج وهذه المغريات هي ما تذرّع به الطغاة حتّى تنام رعيتهم تحت النّير. هكذا تؤخذ الشعوب المخدوعة إذ تروق لها هذه الملاهي، وتتسلى بلذّة باطلة تخطف أبصارها في تعوّد العبوديّة بسذاجة تشبه سذاجة الأطفال، الّذين تخلب لبّهم الكتب المصورة فيحاولون فكّ حروفها، ولكن بتخبّط أكبر” وهذا التفسير النّقدي من كتاب “العبودية المختارة” يحيلنا لاكتشاف مقاربات شبيهة بتلك المساخر من مسابقات “ربحيّة” بداعي الدعاية وتكريس الدفع دون سؤال ولو كانت البلاد تعيش حرباً ضدّ الشّعب!
يشعر المرء وكأن أبناء سوريّة تطاردهم لعنة الأمل في البحث عن ذواتهم بعد أن أزالوا طغيان البعث الّذي دام عشرات السنوات بالحديد والنار، ولا يكفيه ثورة واحدة تتخبط في مصائرها وتنظيرها وقيادتها وعسكرتها، لنقول أنّنّا تعافينا من الاستبداد والعبوديّة، ربّما شهادات التاريخ حول ضرورة التراكم السياسي والمعرفي لشؤون المجتمع ومطالب أبنائه في بلدان ذات ثقافة أخرى، تؤكّد أنّ الوقت لا يمكن أن يكون سريعاً للتخلص من تخلّف متجذر في الأجيال وتنويم واحباط وذلّ كان ولازال تمارسه منظومة تتحالف مع الشيطان لتبقى في رأس السلطة حتّى لو كان على حساب نسف حضارة بلد عظيمة كسورية.
إنّ الكرامة المأجورة الّتي يمارسها أصحاب رؤوس المال، أسباب البلاء الكبير في بلدي، هم آخر من يحقّ لهم المُشاركة في مُداوة النّاس، برأيي، لأنّهم فرّقوا المجتمع واختاروا عصاباتهم من هيئة واحدة وولاء مطلق للطاغية، لا إيماناً وتمسّكاً بوحدة وكرامة شعب حرّ. إنّهم أكثر من موّل الموت ووحوشه من جيوب السّوريين ليتاجروا بأعناقهم المرفوعة ضدّ الظلم والقهر، لا أعتقد أن الشّعب نزل إلى الشارع لأنّه بحاجة رغيف خبز أو لقمة عيش أو زيادة رواتب أو مال، إنّها ثورة كرامة، ثورة للوصول إلى الحريّة المسلوبة الّتي لا تقدّر بأموال الدنيا، وهاهم استبسلوا منذ سنوات في كلّ بقاع العالم ليقولوا إنّهم يريدون سوريّة حرّ ديمقراطيّة وحقوق أهلها ودمائهم قبل أيّ شيء.
عذراً التعليقات مغلقة