أثار قرار الإنسحاب المفاجئ للقوات الأمريكية من سوريا والذي أعلنه الرئيس الأمريكي ترمب عاصفة من ردات الفعل إمتاز معظمها بالتكهن عما ممكن أن يحصل في المنطقة، وماهية البدائل المتوفرة لخروج القوات الأمريكية ومن هو الطرف الأكثر استفادة في ظل وجود قوى كثيرة مستفيدة من هذا الإنسحاب.
في استعراض لتلك القوى نجد أن الخاسر الأكبر لهذا الانسحاب هي مليشيا “قوات سوريا الديموقراطية” والتي بنت شبكة تحالفاتها المحلية واستراتيجيتها العسكرية على الوجود الأمريكي الداعم لها وخسرت بانسحابه أحد أبرز نقاط قوتها في المنطقة، التخبط الذي بدى واضحاً على قيادات “قوات سوريا الديموقراطية” وردة الفعل المتسرعة والتي اعتبرت الإنسحاب خيانة لها جعلها تهدد بردات فعل قد تنعكس عليها سلباً، الإنسحاب من شرق ديرالزور وإطلاق سراح مايقارب 700 الى900 مقاتل أجنبي من تنظيم “داعش” محتجزين لديها كان الخيار الأول لها ومن ثم التلويح باستعادة العلاقات بل والتحالف مع نظام الأسد وتسليمه المنطقة هو الخيار الاستراتيجي المنتظر في حال أطلق الأتراك عملية عسكرية باتجاه مناطق سيطرتها، وهو ما يصرح به الأتراك وبقوة متبعين تصريحاتهم الإعلامية بمظاهر وحشودات عسكرية واضحة في مناطق وجود فصائل “درع الفرات” و”غصن الزيتون”.
المشكلة الكبرى التي تنتظر (قسد) هي أن تقاربها مع نظام الأسد يهدد بنيتها الهشة والتي قامت على تحالف مصلحي الهدف منه محاربة تنظيم “داعش”، مما جعل الكثير من مقاتلي الجيش الحر السابقين ينضمون إليها في رغبة منهم لهزيمة التنظيم الذي كان سبباً في خسارتهم مكانتهم وسيطرتهم على الأرض، هذا التقارب يهدد وجود هؤلاء والذين لا يقبلون بالتحالف مع نظام الأسد بل ويصنفون أنفسهم ثائرين ومعارضين له، هذه النقطة بالذات قد يستفيد منها التحالف التركي مع فصائل المعارضة المدعومة من تركيا في العمل على استثمار هذا التناقض والعمل على استقطاب هؤلاء مجدداً واستثمارهم في العمل العسكري ضد تنظيم “داعش” كما تناقلت وسائل الإعلام عن ترمب بأنه ترك أمر قتال التنظيم للأتراك أحد المستفيدين من هذا الانسحاب ولو ظاهرياً، فالتدخل شرق الفرات وفي مناطق سيطرة التنظيم له حساباته التي قد تربك الخطط التركية التي كانت تستعد للسيطرة على عمق معين يمتد على طول الحدود، أما الذهاب بعيداً فهو يحتاج لتفاهمات جديدة مع الروس والإيرانيين ومع دول التحالف التي لم تعلن إنسحابها وإيجاد أرضية مشتركة للقوى الاجتماعية والحاضنة الموجودة بعد إخراج مليشيا “قسد” وبذات الوقت مواجهة التمدد وإعادة الصفوف المحتملة للتنظيم، والذي في حال توقف العمليات العسكرية سيعمل على ترتيب صفوفه واستقدام مقاتلين جدد لا زالوا يحملون الولاء للتنظيم خاصة في أرياف حمص الشرقية وإدلب وغرب العراق وأرياف ديرالزور، وبالتالي ستكون المواجهة بين الفصائل المدعومة من تركيا والجيش التركي من جهة وبين مليشيا “قسد” وتنظيم “داعش” من جهة أخرى دون أن يكون هناك تحالف واضح أو ظاهر وفي حال دخول نظام الأسد كشريك استراتيجي لقسد وهو ما تؤيده روسيا فالأمر يبدو صعباً أمام الأتراك ليتوسعوا شرقاً.
في ظل هذا التخبط يبدو أن نظام الأسد وحلفاؤه خاصة الإيرانيين ينظرون بعين الرضا والإبتهاج لهذا الانسحاب ففي حين يسمح الانسحاب من قاعدة التنف للنظام والمليشيا الايرانية بالتفكير مجدداً بالسيطرة عليها وبالتالي التوسع في البادية السورية وتأمين طريق دمشق بغداد وتسهيل الحركة للمليشيا الايرانية والعراقية والتفرغ لقتال ما تبقى من جيوب تنظيم “داعش” على الحدود، فإن هذا الانسحاب يضع إيران على الحدود الأردنية وهو تحد سياسي آخر للأردن وحلفائه الغربيين وهذا ما يفسر التسارع في نقل القوات والجنود من مليشيا النظام من مناطق مختلفة في الجغرافيا السورية وخاصة محيط إدلب باتجاه محافظة ديرالزور (هناك حديث عن توجه قوات النمر إلى ديرالزور) حيث يبدو أنه في حال تخلي التحالف عن فصائل المعارضة في التنف فإن السيطرة عليها هي مسألة وقت وهو ما حدا بتلك الفصائل بتوجيه نداء للتحالف الدولي بإيجاد طريق لخروج الفصائل والمدنيين في مخيم الركبان باتجاه الشمال، وهو ما يعتبر مكسباً للأتراك لكنه قد يولد حساسيات من نوع ما بين الفصائل المعارضة ذاتها ..
في حال حصل التقارب الذي تلمح إليه مليشيا “قسد” مع نظام الأسد فإن ذلك يعني عبور قوات من مليشيا النظام نهر الفرات في المناطق المقابلة لهجين ووضعها بشكل مباشر في مواجهة تنظيم “داعش” وهو إن كان نظرياً سهل الحصول لكنه يصطدم بعدة عوائق أهمها وجود التحالف الدولي ودوله التي لم تعلن إنسحابها وخاصة فرنسا وكذلك الفصائل العربية التي ترفض وجود النظام وبذات الوقت تقاتل التنظيم ضمن صفوف “قسد”، والحاضنة الشعبية الرافضة أي تواجد لقوات نظام الأسد.
يبدو المشهد معقداً وضبابياً ويحتاج لإعادة ترتيب الأوراق والتحالفات مجدداً، مما يعني أنه على المدى القصير فإن نظام الأسد وإيران هم أبرز المستفيدين من هذا الانسحاب.
في ظل ارتباك في صفوف التحالف وحلفائه المحليين وفي ظل المهام الجديدة التي لمح إليها الرئيس ترمب في قوله أن لتركيا دوراً جديداً في مقاتلة التنظيم مما يفرض عليها كثيراً من الالتزامات العسكرية والأمنية فمن المرجح في حال انخراط تركيا في عمل عسكري ضد التنظيم وضد “قسد” أن نشهد نشاطاً لخلايا التنظيمين في تركيا واستهدافاً لمصالحها وهذا ما سيضعه القادة الأتراك ضمن أولويات اهتماماتهم.
كذلك تبقى معضلة مدينة الرقة المفتوحة على جميع الاحتمالات أحد مظاهر الارتباك الذي أصاب المشهد السوري.
عذراً التعليقات مغلقة