وُجوه: عبد الكريم بدرخان.. المنفيّ الذي يسكن بيت القصيدة

سليمان نحيلي21 ديسمبر 2018Last Update :

وُجوه

سليمان نحيلي

بعد الشّتات السّوريّ في كل أصقاع الأرض، استمرّ مبدعو سورية في مواصلة مسيرتهم الإبداعية من منافيهم تجمعهم بواعث الحنين إلى الوطن والأهل، والرغبة في الخلاص من الظلم والقهر والفساد وصولاً إلى سورية التي نحلم.

من هذه الاعتبارات، فقد رأيت أنه من الواجب علينا أن نعيد تسليط الضوء على تلك الوجوه التي غيّبتها المنافي – لكنها لم تزل حاضرةً، تصارع الغياب والظلم بالإبداع، وفيةً لرسالة الفن في النضال والتّغيير – وذلك عبر سلسلةٍ هي أقرب للتعريف بالمبدع ونتاجه منها للبحث الفني والنقدي، مكتفياً بنبذةٍ عن حياة المبدع ونتاجه حسب المتوفر من أعماله على صفحات الفيس بوك، أو مما تيسّر لنا الاطلاع عليه من أعماله، إنها مقاربة فنية لتجربة كلٍّ منهم.

عبد الكريم بدرخان

المنفيُّ الذي يسكن بيت القصيدة.

يُعتبر عبد الكريم بدرخان من الشعراء السوريين اللامعين في العصر الراهن، وقد لفتَ الأنظار إليه كشاعرٍ كبيرٍ واعدٍ منذ بواكير قصائده التي نشرها في الجرائد والمجلات السورية.

وُلد الشاعر عام 1986 في حمص مدينة الشعراء، والتي كان للحركة الأدبية النشطة فيها، وخاصةً الشعرية دورٌ هام في صقل موهبته.

وهو يحمل الإجازة في الحقوق من جامعة دمشق.

فتح الشاعر عينيه على مكتبة جدّه ووالده الضخمة، فأقبل ينهل منها بنهمٍ، واطّلع على الآداب العربية القديمة والحديثة، وقد أتاح له إتقانه للغة الانكليزية قراءة الآداب الإنكليزية باللغة الأم، الأمر الذي مكّنه من فهم النص الإبداعي من مصدره بعيداً عن تشوهات الترجمة، وقد حدا به دأبه الجموح إلى ترجمة الكثير من الأعمال إلى اللغة العربية باقتدار، ومما ترجم مختارات شعرية للشاعرة الأمريكية «سارة تيسيل» ورواية هوليوود» للكاتب الأمريكي «تشارلز بوكوفسكي» وغيرهما.

كتب القصة والمسرح بالإضافة إلى ولعه الأساسي بالشعر، ونال الكثير من الجوائز المحلية في مختلف الفنون.

وعبد الكريم شاعرٌ عاشقٌ للحرية، انتصر لقضية شعبه عند انطلاق الحراك الشعبي السلمي في سورية ربيع العام 2011 رافعاً صوته رايةً ضد الأصنام السياسية بقصد التغيير والحرية.

يقول في قصيدة التمرد من مجموعته جنازة العروس:

متقمصاً نفسي خرجت إلى الحياة ..

أُبصرُ حاضري وأكسر الأصنام

في أرضي وفكري..

رفعتُ صوتي رايةً..

أعلنتُ أنّ شريعتي التغيير

والسفر الدّؤوب ..

تُعتبرُ مجموعته الأولى«جنازة العروس» -التي صدرت عام 2014 إثر فوزها بجائزة الشارقة للإبداع العربي- صدىً للحدث السوري الهام بكل تطوراته وتداعياته وآلامه ، حيث صوّر فيها معاناته التي تنطبق على المجموع،ورسم حنينه إلى وطنه -الذي اضطر إلى مغادرته على وقع مدافع وصواريخ جيش الوطن – في كلمات تقطر شاعريةً وشجىً

ورصد بعين شاعرٍ حساس تفاصيل كثيرة مؤلمة للمعاناة اليومية للسوريين، جسّدها في قصيدته الهامة والمميزة «يوميات الجرح السوري» والتي نقتطف منها:

طفلٌ يحبو حول سرير الأمِّ
يهزُّ الثديين
فلا يتساقط إلا الموت
على شفتيه ..

وفي مجموعته الثانية «كما أشتهيكِ وأكثر» الصادرة آواخر العام 2014، يغوص شاعرنا في عوالم الذات والعشق وتأخد المرأة حيزاً هاماً من المجموعة، ويوظّف فيها تقنية المشهدية الشعرية بشكلٍ دراميٍّ ناجح ومؤثر:

عاد الشتاء وحزن العين ينهملُ
كلّ الدروب بكاء ٌ والمدى مقلُ
عاد الشتاء فأطلِقْ دمعةً حُبست
يخفي دموعكَ أنّ الغيث ينهملُ

وفي مجموعته الثالثة «لون الماء» الصادرة عام 2017 يرسم عبد الكريم بشاعريةٍ عاليةٍ، متوّجةٍ بالدمع أوجاعَ الغربة وبرد المنافي البعيدة، ويرتاح فيها أكثر إلى اتجاهٍ فلسفي يشعّ جمالاً، بدأ يتناوب بين القصيدة والأخرى منذ رائعته الأولى جنازة العروس، ضمن طابعٍ رثائيٍّ، يقول:

يوماً ما سوف تهبني الحياة أسرارها ..
وتأخذ حياتي في المقابل..

وكذلك في قصيدته الماتعة الكتابة في درجة الصفر.

وربما كانت قصيدته الغريب والغجرية الحامل الأساسي لمضمون هذه المجموعة واللتان تفصحان عن رؤيته للاغتراب الذي يكابده الشاعر.

ما يميز نتاج بدرخان الإبداعي بشكل عام، ذلك القلق الوجودي العميق الذي نلمسه في مجموعاته الثلاث، إنه قلق النفس الشاعرة التي اقتُلعَ صاحبها من أرضه وبيته وذكرياته، قلقٌ على الإنسان لنسمع تلك الصرخة منه:

أُحسّ أنّ وجودي لا وجود له ..

وكذلك في هذا الشطر المؤثر:

هذا المساءُ
ينتابني قلقٌ وجوديٌّ
ويحضرني البكاءُ

إلا أنّ هذا القلق والحزن لايذهبان به حدَّ الجمود واليأس، ولا يمنعانه من حبّ الحياة واستشراف الأمل والفرح والتفاؤل بالمستقبل الأجمل وعودة المبعدين لأوطانهم.

ها هو يضخّ في حزنه ماء الحياة والأمل قائلاً:

هنالكَ حزنٌ يجدّدُ ماء الحياة
يذكرنا برذاذ الفرح
في صحارى السنين
هنالك حزنٌ يلوّح بمنديله للمسافر ِ
ويدعوه للياسمين ..
فلا معنى لجرحٍ
لايفتّح ياسمينا..

غلاف مجموعة “لون الماء” للشاعر عبد الكريم بدرخان

وتسجل المرأة حضوراً لافتاً في مجموعاته الثلاث، وخاصة في «كما أشتهيكِ وأكثر» وذلك في صورها المختلفة: (المعشوقة، الأم، زوجة الشهيد المناضلة، الشهيدة، الأخت والابنة).

وكان لا بدّ للثورة السورية وأحداثها أن تفرض موضوعاتها ومفرداتها على شاعرنا الحر بشكلٍ واثق وبأبعادٍ ومعانٍ جديدة لم تكن مطروحة من قبل، ومنها:

(الأرض، الموت، القبور، الدم، الغربة، الشهيد، المنافي والخوف).

ومن الإنصاف القول أنه يكاد يكون لعبد الكريم مفردات خاصة تميز إبداعه منها مثل: (الكنيسة، الشموع، الرهبان، الناقوس، الأجراس..)

ولا يجنح شاعرنا إلى كتابة المطوّلات الشعرية، مصطفّاُ بذلك مع نظرية الاقتصاد اللغوي التي تناسب الشعر والتي نجح في استخدامها بشكل مناسب.

وبعكس الطيور، تجبر الحرب شاعرنا على الهجرة من وطنه إلى بلاد الصقيع، وهناك في منفاه البارد في النرويج تفتك به الوحشة، ولايجد شيئاً يدفئ روحه سوى لغته التي حملها معه فيبتني لنفسه بيتاً فيها، يقول:

أسكنُ الآن في الضّادِ
بيتُ القصيدة بيتي..

إنه هناك وحده:
يرثي قصيدته
ويفتّش عن قلبه
في ركام الحجر ..

ولكنه متزمّلٌ بالتفاؤل والأمل بالعودة إلى وطنه ومسقط رأسه حمص، فيرفع صوته وكأسه شوقاً مرتلاً:

ولحمصَ أرفع كأسيَ العطشى
وأحلمُ بالمطرْ …

Comments

Sorry Comments are closed

    عاجل