تطرح جملة الاحتجاجات والانفجارات الشعبية التي حصلت في المنطقة منذ بداية الربيع العربي في تونس وصولاً إلى اليوم في فرنسا جملة تساؤلات مهمة حول دور الشعوب في التغيير ومقاومة عمليات النهب المنظم التي تقوم به رأسمالية متوحشة منفلتة من عقالها.
لقد أدت سياسات الأنظمة العربية القمعية الناهبة لثروات شعوبها المتعاونة مع الخارج إلى إغلاق الأفق أمام الشعوب العربية بالتغيير السلمي والإصلاح، وفي ظل غياب القيادة المنظمة، وانتشار المظالم ووعي الشعوب لهذه المظالم كان الانفجار العفوي هو الشيء الطبيعي والمنطقي لهذه السياسات التي أفقرت الشعوب وركزت الثروة بيد قلة من الناس موجودين السلطة أو في حلقة ضيقة حولها.
مع تصاعد أزمات الرأسمالية وتوحشها وعدم قبولها بتنازلات ومحاولة سيطرتها على كل الجو المحيط وتوجيه المواطن من خلال الإعلام كانت الثروة تتوجه لتتركز بيد قلة قليلة من البشر، وتبتعد عن الطبقات الوسطى والدنيا من المجتمع، والتي ازدادت عليها الأعباء المالية من زيادة في الضرائب وارتفاع الأسعار وتخفيض الضمان الاجتماعي والابتعاد عن نموذج دولة الرفاه التي قدمت الحد الأدنى من المعيشة الكريمة لمواطنيها بسبب أزمة الرأسمالية الموجودة في بنيتها الأساسية، ويمكن أن نلمس تكرار الأزمات الاقتصادية وهروب هذه الرأسمالية باتجاه الأمام دائماً، وعلينا أن نتذكر إفلاس اليونان، وأزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة الأمريكية وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي…
ما حدث في فرنسا شبيه بما حدث في شتاء 2010 – 2011 في تونس، وكانت مطالبه الرئيسية الحرية والعدالة الاجتماعية، الحرية من نظام مستبد، والعدالة في توزيع الثروة المتركزة بيد حفنة قليلة موجودة في السلطة ومحيطها، وتخفيف العبء الاقتصادي عن الشعب، وانتشرت العدوى بعد أن رأت الشعوب أنه يمكنها تحقيق جزء من مطالبها عبر المظاهرات، لكن استطاعت المصالح الاقتصادية غير الراغبة بانتقال سياسي حقيقي في المنطقة بالتعاون مع الأنظمة القاتلة والمستبدة من تحوير وحرف حركة الجماهير عن أهدافها إلى شعارات دينية مذهبية متطرفة وبحث عن الهوية.
في فرنسا ظروف مشابهة من نظام حكم يحابي الأغنياء وضعف الأحزاب والنقابات، وظروف اقتصادية سيئة انفجر الشعب نتيجة قرار حكومي بزيادة الضرائب على الوقود مما أدى لارتفاع سعره.
يرى بعض المفكرين أن الاحتجاجات في فرنسا لم تكن موجهة ضد سياسات ماكرون وحكومته فقط، إنما كانت احتجاجات تضرب بالعمق، إنه “رفض لنظام كامل دفع بالإنسان إلى هاوية الجشع الرأسمالي.” حسب المفكر اليساري الفرنسي “جون كلود ميشيا”، ويرى “ميشيا” أنه لم يعد بوسع الناس “أصحاب السترات الصفراء ” إلا أن يثوروا بعد يأسٍ من اليمين واليسار”.
لقد شكلت وسائل التواصل الاجتماعي أكبر حزب معارض للأنظمة والحكومات، ففيما بدأت الشعلة من بلدان جنوب المتوسط، أو ما يعرف بالدول النامية، انتقلت مع أصحاب السترات الصفراء إلى أحد مراكز الرأسمالية التقليدية، وضربتها في عقر دارها، وانتقلت الاحتجاجات إلى بلجيكا، وفي الطريق عادت لبلدان الجنوب، حيث انطلقت دعوات السترات الحمراء في تونس، وفي مصر يتحسب النظام من موجة احتجاجات وقد حشد كل أجهزته الأمنية والإعلامية ليوجه هذا الخطر المحتمل، وفي الأردن خرجت دعوات للتظاهر متخذين من “الشماخ الأحمر” رمزا مشابها للسترات الصفراء، وهي كلها حركات ولدت في الفراغ دون تنظيم ولا قيادة، ولدت بعيداً عن الأحزاب والنقابات من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والشبكة العنكبوتية.إن ما جرى ويجري على الساحة الدولية يؤكد أن نهج الرأسمالية المتوحشة التي لا تقف عند حدود ولا تردعها قيم الليبرالية الديمقراطية ولا اليسار التقليدي، ولا نقابات مترهلة متعبة، وسهلت لها سيطرتها على وسائل الإعلام لتحاول توجيه الناس وغسل ادمغتهم، إلا أن إحساس الناس بالبؤس دفعهم للانتفاض بشكل متكرر في أكثر من مكان من دول الجنوب، وها هو حراك أصحاب السترات الصفراء في فرنسا وانتقاله إلى بلجيكا يؤذن بدخول دول الشمال في مسار الانتفاضات التي ضربت هذه المرة عمق الرأسمالية الدولية.
عذراً التعليقات مغلقة