لم تكن أساليب المُصالحات والتّهجير تحت القصف، سوى لغة نهائيّة لحسم النّزاع في سورية، وما يحدث حالياً في درعا من تصفية لقادة “فصائل المصالحات” إلى جانب الاعتقالات التعسفيّة للشباب في شوارع دمشق وريفها للخدمة الإجباريّة بعد مسرحيّة العفو العام، هو خلاصة التفكير الّذي يريد لسورية أن تبقى ساحة حرب ومحرقة دونما نهاية!
ومن كان يعتقد أنّ المناوشات الحاليّة على جبهات ريف إدلب الجنوبي وريف حماة الشمالي وريف حلب وبعض ريف السّاحل السّوري شمالاً، وهي مواقع التّماس لفصائل المعارضة مع قوات النّظام، على أنّها مجرد فرصة لاختبار اتفاق تركيا وروسيا بشأن إدلب. بينما الهدنة مستمرة (…) دون أن ينظر إلى محاكم “هيئة تحرير الشّام” المزعومة والاغتيالات المُمنهجة الّتي تقوم بها ضد النّاشطين والرّافضين لوجودها، والتنسيق المستمر مع نقاط المراقبة التركية، كما حدث مؤخراً في معبر مورك بريف حماة الّذي أخلته فصائل “الهيئة” بتوجيه يُعتقد أنّه من تركيا، وبالتالي فالمناوشات أيضاً مدروسة ومتفق عليها، والضحيّة هي العمل السّياسي وتحويل الحياة المدنيّة إلى حياة عسكريّة متوترة دائماً!
يُضاف إلى ذلك المظهر السّياسي الّذي تتخذه “تحرير الشّام” من خلال تشكيل طبعة جديدة من “حكومة الإنقاذ” في إدلب وأريافها، والّتي رفعت أخيراً علم الثّورة السّورية بعد التعديلات “الجهاديّة” وإضافة عبارة التّوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) بعد إزالة النجوم الحُمر الثلاثة من وسطه، ضاربة بذلك عرض الحائط كلّ الانتقادات الموجّهة لها، فهي بالنهاية الآمر النّاهي في مصير مناطق المعارضة، والمُبرّر الأبرز دوليّاً للقضاء على جغرافية الوجود المعارض في سورية.
إذاً فإنّ بداية مظاهر العفو المزعوم الّذي أطلقه النّظام وروّج له منذ فترة وجيزة، كانت هي لحظة إنذار للأجهزة الأمنيّة العسكريّة لتوقف من تريده للخدمة في قوات النّظام. بالتوازي مع ذلك تابعنا الحملات الّتي قامت بها فصائل المعارضة شمالاً ضد الفصائل المعارضة للتدخل التركي كما في عفرين، هي أيضاً مماثلة لتوقيت تحرك النّظام في دمشق من أجل “الخدمة في جيشه”، وكذلك تحرك شقيقه الاستبدادي تنظيم “جبهة النصرة” وجهازه الأمنيّ للتخلص من عشرات الأصوات السّياسيّة المؤثرة بالشارع في إدلب وريفها.
ولعل أكثر ما يثير الاستغراب هو أنّ ضابطاً سورياً منشقاً وهو الرائد الطيّار “خالد العيسى” الّذي أخفته المخابرات التركية مؤخراً من مقر إقامته في مدينة الريحانية، لايزال مجهول المصير، علماً أنه من الأصوات السّياسيّة اللاذعة لتدخل “الإخوان المسلمين” وهيمنتهم على العمل السّياسي في الهيئات المعارضة بدعم تركي واستثمار ذلك لمشروعهم الدّعويّ في “الإسلام السّياسي” المزعوم.
بالمحصلة النّظام يتخلّص من العثرات البشريّة الّتي يمكن أن تعطّل تعويمه وملفاته الأمنيّة، والمعارضة الموجّهة من “الإسلام السّياسي” تخفي بدورها كلّ المعارضين لها في مناطق الشمال السّوري وفي أي مكان من تركيا أيضاً، ترى هل ذلك محض صدفة؟
إنّ الاصطياد المُمنهج الّذي يجري في الصراع السّوري حالياً، يتضاعف على خطوط متوازية ومتفق عليها بين اللّاعبين الدوليين في المنطقة، والكارثة أنّ الشعب لا يُقدّر له أيّ تمثيل حقيقي في ذلك وهو عادة الضحية الأكثر تأثراً. لو نظرنا إلى مناطق “درع الفرات” والتّمدّد التركي فيها، وخطورة ذلك، سوف ننظر أيضاً إلى الوجود الأمريكي إلى جانب فصائل الأكراد شمال شرق سورية، وأخيراً خطورة الوجود الروسي والإيراني على الأرض بتفويض من النّظام. تلك الانقسامات لا تمثل أيّ شكل للوطن، في الوقت الّذي تنمو حمّى الأقاليم والفرز الطائفي والتغيير الديموغرافي، لا نجد من يوجّه كلّ ذلك باسم الشّعب، لأن خطوات الثّورة الأولى وتعثّرها بالنّفايات ممن أمسكوا بحربات القتال مثل “أبو محمد الجولاني وعصام البويضاني وعبد الناصر شمير” الّذين وقع الأسد أخيراً قرار إعدامهم بعد انتهاء مساهمتهم في أسلمة الثورة وتطرفها الجهادي، هم مبادرات إجراميّة أعطت للقاتل وحلفائه المبرّر لإطلاق الصواريخ والطيران وتفريغ المدن وإهانة من رفض الاستبداد والعبوديّة، والشّعب لا يمتلك وعياً كافياً ليحميه من كل ّهؤلاء، سوى محاولاته المستمرة برفض الاستكانة لذلك ولو بعد حين.
وبالتالي فالعودة إلى الشّعب السّوري ليكون سيّد قراره في كلّ مكان، هي أكثر ما نحتاجه قبل اكتمال تفاهم الدول الكبيرة على تقطيع أرضنا تحت مزاعمها المختلفة، وبرأيي إن كلّ من يعتبر الحلفاء ضرورة لتحرّره من الطغيان سوف يبقى عبداً لهم إلى الأبد مهما تمسّك بضمانات نقاط المراقبة “البهلوانية”!
عذراً التعليقات مغلقة