يحيل الثقافي في حالتنا الراهنة ربما إلى معجم قديم لاكته الوقائع والمتغيرات في المنطقة والعالم، حتى غدا مرادفاً لذكرى غابرة بعد أن كان طليعياً ومفهوماً لصيقاً بحركات التحرر العالمية والعربية. وهذا التبدد في المفهوم سوقته أنظمة الاستبداد وأطاحت بمحتواه ثلة المتعالمين والمدعين وحملة مباخر السلطات والأحزاب العربية بشتى طيوفها، إضافة لعجز أطروحات الثقافي العربي عموماً واليساري منه خصوصاً في تحويل الشعارات الكبرى إلى برامج عملية حاضنة للنسيج المجتمعي. وقد ترافق ذلك مع ارتفاع وتيرة الدعوات بالركون لمفهوم تقني آخر يجعل من الفكر علامة خالصة خارج اليومي المحسوس وانشغالاته العامة وبالتالي خارج الفعل والطبقات والصراعات الميدانية.
فتارة هو المنتج الفكري وتارة المفكر وأخرى المختص التكنوقراط وهذه الدعوات المخادعة تنطوي على انتهازية فاضحة في سلخ الثقافة عن نسيجها الاجتماعي والسياسي واقتصار عمل الوعي المفارق مجازاً على الإنتاج المعرفي الخاص بمالكه دون التلازم العضوي بين النظر والعمل وسياقات الأهداف المراد تحقيقها.
وفي ظل فقدان النواظم والمعايير الثقافية تم اختزال المعنى بمجموعة أفراد يتداولون فيما بينهم المقروء والمكتوب ضمن تبعية إيديولوجية أو سياسية لهذا الطرف أو ذاك وبالتالي ظل الثقافي في نهاية المطاف مجرد هامش على دفتر السياسي لا أقل ولا أكثر، لكن الانكأ من ذلك في الضفة المقابلة يكمن في لصوص الثقافة الصغار والكبار، وهم كثر، أفرادا ومؤسسات، بعد أن جرت مياه كثيرة فوق الجسور وتحتها في عصف المقتلة السورية واستلت جماعات محلية وعربية سيوف الادعاء والتعالم الثقافي تحت لافتة دعم اللاجئين في أوروبا بالتباسات واضحة في الوجوه والأهداف والأسماء، وباتت البضاعة الرائجة في استثمار تداعيات الحرب عبارة عن تجارة في الدم والسلاح والمفاهيم، وفي هذه الأخيرة خرجت علينا صحف ومواقع ومؤسسات ومنتديات لها أول وليس لها آخر، وحظيت بتمويل ودعم من جهات محلية وعربية حيناً، وأوروبية في أحايين أخرى، في محاولة لاختراق المفهوم وتزوير الأهداف وطمس المعنى الحقيقي للفعل الجماعي، خاصة في حقل الإبداع باعتباره الحامل لروح الجماعة والمعبر عن مسكوتها ومخيالها الإنساني، وبقيت بالمقابل الثقافة الجادة المقهورة تحاول جاهدة إثبات قدرتها على البقاء والمواجهة في بلدان الاغتراب دونما داعم أو ممول، محاولة سحب البساط من تحت أقدام الطمأنينة المزورة والاستتباب الظاهر في احتواء تجذر المفاهيم الجديدة وربما نسف المؤسس والإيديولوجي الجاهز بشعاراته الجوفاء التي ثبت بطلانها تحت دوي القذائف وعويل الضحايا والهاربين من الموت والدمار إلى أربعة أرجاء الأرض وتقديم الناصع والفعال في ثقافتنا العربية، وهز ثقافة الرضا والقدرية والذوبان في المجتمعات الجديدة، فالاندماج شيء والانصهار شيء آخر.
والقطيعيون.. من القطيع وليس القطع مع سادتهم، زعماء وأمراء وبوزات لاينظرون بعين الرضا لأي تشكيل إبداعي حر سواء كان جماعياً أو حمل طابع الروابط والجمعيات، ليس داخل مناطق حضورها وهيمنتها وشبيحتها، فمن المتعذر وجودها أساسا، إنما في بلدان خارج قبضتها و قدرتها على القتل والتنكيل بالبشر، فتدفع من ينوب عنها بلبوس الداعمين والممولين أو بأدعياء الأدب والفن والفكر بمحاولة مصادرة هذا التشكيل أو ذلك الملتقى، واحتواء تداعياته التي لا تقف عند حدود الأمسية والندوة وورشة العمل بل بالتفكير بعيداً عن برمجتها وسياستها، فيرفعون لافتات الضحايا ويدخلون ألمهم مجازاً ويبيعونه كما يسرقون المشاريع باسم اللاجئين ويفبركون اسماء وأنشطة واهية، ويدعون سبقهم في ذات المجال بغطاء سلطة عربية لا حقوق فيها ولا ملكية فكرية حتى للمواطن، فكيف للاجئ السوري والفلسطيني الذي تتقاذفه حواجزهم وقواهم الأمنية وتسلمه لجلاديه، ولأن الثقافي “سئافي” بلفظتهم، بما يحمله الفارق من دلالة وفاصلة هي بالضبط الفارق بين الأصل والمزور وبين النبالة والنذالة معتدين بقوتهم المادية ووفرة الداعمين لهم كسهام في جعبة سيدهم، و لكن هذا السعي للأسف يمكنه النجاح في ظل غياب الحواضن الداعمة للجهد الحقيقي والمفارق.
وتبدو أزمة العمل الثقافي في دول خارج المنطقة العربية لا تتوقف عند حدود.
الهوية وتحدياتها أو تفاصيل صغيرة هي تجليات لأزمة البنية المجتمعية الأساسية التي كبحتنا تاريخياً باسم السلطة والموروث والحد السياسي باعتبارنا لاجئين حتى في منطقتنا العربية.
طبعا الاستمرار وعدم التوقف في احتراف الأمل وتربيته هو النموذج وليس الاستسلام.. وللحديث بقية.
Sorry Comments are closed