استيقظ محمود على غير عادته متحمساً نشيطاً، مع أن اليوم يوم الضاحية كما يسمونه، ومحمود معروف لدى الجميع أنه يكره الضاحية ويتشاءم حتى من ذكر اسمها أو سيرتها.
قال له رفاقه: خير إن شاء الله يا محمود “شو هالنشاط والحيوية على غير عادتك ولا نسيت أنه اليوم اختبار الضاحية”؟
قال محمود: “اشتقت لأمي يا شباب، حاسس حالي اليوم عم طير بالسما لفوق بدي جيب الضاحية بأقل من عشر دقايق، بدي ساوي المستحيل”.
هنا في قطعات الحرس الجمهوري يختلف الأمر كثيراً عن جيش أبو شحاطة، فالضابط الذي يأتي فرزه على الحرس الجمهوري تكون “أمه داعية له”، وطبعا هذا الأمر لا يمكن أن يحدث بمحض الصدفة أبداً، فجلّ الضباط الذين يأتي فرزهم إلى هنا يكونون من “الطائفة الحاكمة” ومن المقربين جداً من عائلة الأسد، ونادر جداً ما يكون هنا ضباط من بقية طوائف الشعب فأي ضابط يفرز إلى مرتبات الحرس الجمهوري تكون “أمه داعية له والست ناعسة رضيانة عليه بنفس الوقت”.
بينما عندما يأتي فرز عسكري مجند من بقية الطوائف إلى هنا “يا ويله و يا سواد ليله”، ومحمود وزملاؤه من أولئك الذين رماهم الحظ التعيس إلى هنا. فللحرس الجمهوري خصوصية في “جيش أبو شحاطة” من حيث النظام والتدريب والسلاح والسلطة كيف لا؟ وقطعات الحرس الجمهوري هي المسؤولة عن حماية كرسي الحكم لآل الأسد بشكل مباشر.
كانت الإجازة للعساكر المجندين التعساء هنا كل ثلاثة شهور لمدة 72 ساعة فقط، هذا اللهم إذا استطاع أحدهم اجتياز اختبار الضاحية (الجري لمسافة 3 كيلو متر) وحصل على زمن ممتاز، هذا القانون يخص العساكر المساكين كمحمود ومن هم على شاكلته، أما بالنسبة للعساكر الواصلين بالسلطة والذين جلهم من “الطائفة الحاكمة”، والعساكر الأغنياء القادرين على الدفع فلا يأتون إلا بالمناسبات.
أما محمود فكل تلك السبل كانت مغلقة أمامه، للحصول على إجازة ولو قصيرة يرى فيها أهله وأمه، فهو ليس ابن سلطة و لا ابن غنى ومال وهو القادم من قرية فقيرة منسية في ريف الحسكة، أضف إلى ذلك عجزه عن تجاوز إختبار الضاحية بسبب ضعف خلقي في جسده، لذلك فهو أشبه بمعتقل داخل حدود قطعته، منذ أن جاء إلى هنا ولأكثر من تسعة أشهر.
اصطف العساكر بعد عدة إيعازات، ومن ثم تم أخذ التفقد الصباحي، ثم مشوا إلى خط البداية واستعدوا للسباق، ومع إعطاء الضابط إشارة البدء انطلق محمود بسرعة جنونية.
تقدم محمود على الجميع، وبقي محمود محافظاً على تقدمه حتى ما قبل خط النهاية بقليل، ثم بدأت سرعته تخبو شيىاً فشيئاً، وبدأ زملاؤه يمرون عليه، وقبل الوصول إلى خط النهاية بعشرين متر تقريباً، سقط محمود على الارض، وبدأ زملاؤه يشجعونه على قطع خط النهاية فلم يبق أمامه إلا القليل، وبدأ محمود يزحف ويزحف، لكن فجأة توقف محمود، وانطفأت أنفاسه، وتوقف نبض قلبه، وبدون أي مقدمات مات محمود.
مات محمود، ولعلّ روحه المشتاقة لرائحة أمه لم تعد تقوى على الانتظار أكثر وأكثر حتى في حال اجتياز الضاحية بزمن ممتاز، وطريق سفره يحتاج إلى ركوب عدة باصات وسيارات وربما دراجات نارية تستهلك يوماً شبه كامل من إجازته الساعاتية، حتى يصل بجسده المثقل إلى بيت أهله.
طارت روح محمود مسرعة إلى أمه و احتضنتها وبقيت تطوف في زوايا البيت من زاوية إلى زاوية وبدون رجعة إلى هذا “المعتقل الإرادي” والذي صمموه لخدمة الوطن كما يدعون.
- القصة حقيقية وحدثت قبل انطلاق الثورة السورية.
Sorry Comments are closed