ما معنى أن تكون فصائل المعارضة غير قادرة على حفظ الأمن والسّيطرة على الحياة المدنيّة بخطاب موحّد دفاعاً عن الإنسان وكرامته بعيداً عن تكرار بطش الاستبداد الأسدي؟ كيف يتعيّن على من يعتبرون أنفسهم مع الثّورة السّورية أن يقتلوا النّاشطين السّياسيين وأن يهدّدوا كلّ من يرفض خطاب “جبهة النّصرة” وأخواتها من “مخلّفات القاعدة” حسبما ذكرت لافتات المظاهرات منذ أيام في الشمال السوري؟
تستند الفصائل العسكريّة المعارضة بمُجمل دعمها على الخارج ومصالح الدّول الدّاعمة وتمويلها، ولا تستمد قرارها من الحاضنة الشعبيّة، وهي على اختلاف توجهاتها تنادي بالدّين كمرجعيّة سياسيّة، تثبت يوماً بعد الآخر، حجم المُراهقة السّياسيّة لدى من يسمّون أنفسهم “مجالس شرعيّة” وجماعة “حِسبة ودعوة”.
لا يمتلك هؤلاء أيّ مشروعٍ سياسيّ مدنيّ يلبّي طموحات من تبقى من المعارضة المدنيّة في مواقع سيطرة الفصائل المسلّحة شمالاً، والدليل هو الصّراع المستمر حتّى اليوم فيما بينهم، سواءً ضمن مناطق الوصاية التركيّة، أو في مناطق “تحرير الشام”، ولعلّ هذه الأخيرة هي المُبرّر المزعوم منذ سنوات، الّذي تعتمد عليه تركيا وروسيا لفرض شروط جديدة على باقي الفصائل والأهالي، إذ تحاول قيادات المعارضة المسلّحة أن لا تظهر تبعيّتها المُفرطة للقوات التركية ونقاط مراقبتها، وبذلك تسعى للحفاظ على الثقل الشعبيّ المفروض بالسّلاح والحملات الأمنيّة، وبالتالي فإنّ عمل هؤلاء يبدو في فشل متصاعد أمام الرأي العام وفي حمّى الاندماج الفصائلي.
وإذ كان البعض يعتقد أن تجربة “درع الفرات” التركيّة نموذج لانتصار الثّورة، فإنّ ذلك لا يعدو كونه انتقال من حالة إنكار الفشل السّياسي إلى الاعتراف بالحاجة إلى الحلفاء الأتراك أسوةً بالنظام السوري وحلفائه الروس والإيرانيين، وذلك بحد ذاته يفسّر لنا بعضاً من دروس الفشل في العمل الثوري، الّتي نحن بحاجة كبيرة لأن نعيد النّظر في ثغراتها والمصطلحات والمفاهيم النّاتجة عنها لنتجاوز كوارث مثل “الأسلمة” و”العسكرة الفوضوية” ومئات لصوص الثّورة الّذين يستثمرون في تركيا بعد ما نالوه من شهرة وأموال ودعم على أساس أنّهم يمثلون أدوار المفاوضين باسم الشّعب السّوري بينما لم يكن هناك من يحاسبهم على الفشل الكبير في تمثيل هذا الشعب.
ليست التشاؤميّة الّتي برأيي كمراقب للشأن السوري من الخارج، قادمة من بعدي عن الداخل وآلام الأهالي في مناطق سيطرة المعارضة والنظام، بل هي مقاربة لنتائج نشاهدها الآن من تراجع التمثيل الشعبي الحر وغياب الاستقلاليّة بالقرارات المصيريّة لمئات الآلاف من المدنيين، وعدم الاعتراف بفشل التجربة السّياسية وتقهقر تأثيرها على الدول اللّاعبة في السّاحة السّورية، لذلك بات القرار بيد الفصائل قيد سلسلة تنازلات بداية من التهجير عن المناطق المعارضة وصولاً لبيع معدّات المرافق العامّة والتجارة بالإرث الثقافي السوري وبيع الآثار وقتل الناشطين السّياسيين والتخلّص من كلّ صوت لا يتماشى مع تركيا من جانب المعارضة، وكلّ صوت لا ينفذ القرارات الروسيّة من جهة النظام، بالتماهي طبعاً مع الوجود الكردي وقلقه المتخبّط بين الخوف من سلاح المعارضة وتركيا وبين عدم الثقة بالحليف الأمريكي، من هنا أجد أن التشاؤم المستمر سبب أساسي لقراءة الواقع الثوريّ من وجهة نظر نقدية لا تتوقف عند الإنجازات الشحيحة بالنسبة للسّوري الّذي لم يعد خائفاً، ربّما، وبالنسبة للبلاد المقسّمة بالنّار والمصالح وصولاً للخيبات الكبيرة على مستوى ثورة لم تعد واضحة المعالم وبحاجة تصحيح مسار.
عذراً التعليقات مغلقة