وصِفت العملية بالغادرة والجبانة من قبل بعض السوريين، ولم يتأخر قسم كبير من المتابعين عن اتهام جبهة النصرة وتحميلها المسؤولية المباشرة عن الاغتيال. قتلُ رائد الفارس وحمود جنيد في كفرنبل، يوم الجمعة الماضي، جريمة لا تخلو من رمزية قتل كفرنبل بأكملها بوصفها البلدة التي يعرفها كثر ممن تابعوا أخبار الثورة السورية في العالم كله، عبر اللافتات الشهيرة التي كان رائد وحمود من أبرز صنّاعها كظاهرة متميزة في تعبيرها عن روح الثورة.
اتهام جبهة النصرة، في حين تعوزه الأدلة المباشرة كما هو معتاد في هذا النوع من الجرائم، فإنه يملك وفرة من المبررات الوجيهة، تبدأ باستهداف الشهيدين من قبلُ تضييقاً واعتقالاً ولا تنتهي بسيطرتها على البلدة كسلطة أمر واقع. في كل الأحوال، هذا الاتهام بمثابة يقين لدى شريحة واسعة، وأمراء النصرة ليسوا من النوع الذي تؤثر به الاتهامات، ولا هم من النوع الذي يجد نفسه مطالباً بتقديم التوضيحات. بالأحرى يجد أمراء النصرة أنفسهم فوق التنازل والرد، لسان حالهم منذ سنوات يقول على طريقة القذافي: من أنتم؟!، وهذا ينسجم تماماً مع مزاعمهم في امتلاك الدين الحق بخلاف التدين الشعبي المعروف في سوريا، وينسجم مع مشروعهم الخاص للهندسة الاجتماعية، أي مشروع تطويع السكان وقولبتهم وفق مزاعمهم الدينية الخاصة.
انطلاقاً من معرفة مشروع النصرة يكون اتهامها بالغدر لا معنى له، فهي لم تقدّم في أي يوم خطاباً سوى خطابها الديني المتشدد الذي يتنافى مع الحريات العامة والشخصية، ولم تقدّم في أماكن سيطرتها نموذجاً للسلطة سوى نموذج “التغلّب” الذي يعني إكراه السكان للعمل بموجب تشريعاتها أو فهمها الخاص للتشريع الإسلامي. عداء النصرة، ومعظم أخواتها من التنظيمات الإسلامية، للديموقراطية لم يُترك يوماً في حيّز التكهن، بل كان طوال الوقت مُشهراً من قبل أصحابه. النصرة تحديداً لم تراوغ يوماً في موضوع انضوائها ضمن الثورة، ولم تخفِ انتماءها لتنظيم القاعدة العابر للحدود بأهداف لا تتفق إطلاقاً مع تطلعات السوريين إلى الحرية.
وصف النصرة بالغدر قد يكون مفهوماً فقط إذا أتى من أولئك الذين ألصقوها بالثورة عنوة عنها، أو الذين لم يميّزوا بين معاداة الأسد التي تحتمل خصوماً من أصحاب المشروع الإسلامي وبين الثورة التي انطلقت من أجل تغيير ديموقراطي، لا للخروج من استبداد أسدي إلى استبداد إسلامي. على يمين النصرة وشمالها لدينا أمثلة عن مسؤولية التنظيمات الإسلامية عن تغييب ناشطين ديموقراطيين، منها اختطاف داعش سمر الصالح والدكتور إسماعيل الحامض وفراس الحاج صالح، ومنها اختطاف رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي بعد تهديدهم من قبل جيش الإسلام. تلك الأمثلة وما يشابهها ينبغي أن تدفعنا لنقرّ بنضج التنظيمات الإسلامية التي تدرك أهدافها جيداً، فلا يمنعها قتالها الأسد عن استهداف خصومها الآخرين، ولا تدفعها وحشية الأسد إلى وهم التحالف مع الذين يشكّل مشروعهم خطراً على مشروعها.
وإذا كان لداعش وضع مختلف، بعد أن أصبحت خدمته الموضوعية للأسد جلية، فالأمر بقي مختلفاً إزاء النصرة التي ربما يصعب اتهامها مباشرة على منوال داعش، كذلك بقي الأمر مختلفاً إزاء جيش الإسلام على سبيل المثال. الحجة الدائمة، المعلنة أو المتوارية، هي تغليب المعركة ضد الأسد على ما يُفهم بوصفه معارك جانبية قد تخدم الأول. ثمن هذا الفهم كان طوال الوقت مدفوعاً من حساب الثورة ونشطائها، على صعيد حيواتهم المباشرة أحياناً، وعلى صعيد سمعة الثورة ككل في الأحيان الأخرى. ينبغي ألا ننسى قيام جبهة النصرة وتنظيمات إسلامية أخرى ذات تمويل ضخم مستخدمةً القوة بقضم المناطق التي حررتها فصائل كانت تعلن انتسابها لما يُعرف رمزياً بالجيش الحر، ما يعود بنا إلى “مرونتها ونضجها” اللذين يسمحان بوجود عدويْن على قائمة الأولويات.
لم يغيّر في وضعية النصرة، وفي التغافل العام عن خطابها ونهجها، وضعها قبل خمس سنوات ونصف على لائحة الإرهاب بموجب قرار لمجلس الأمن الدولي، بعد وضعها على لائحة الإرهاب الخاصة بالإدارة الأمريكية. ولعلنا نذكر قيام ممثلين عن المعارضة بالدفاع عن النصرة رغم القرار الدولي، الغاية من هذا التذكير ليست توبيخ أحد بمفعول رجعي، وإنما كان وسيبقى من المستغرب الدفاع عن جهة موضوعة على لائحة الإرهاب وفي الوقت نفسه مطالبة المجتمع الدولي بدعم من يدافعون عنها. لقد استُغلت تلك الوضعية أفضل استغلال من قوى خارجية لوصم الثورة بالإرهاب، مثلما استُغلت من قبل الأسد وحلفائه، ومن قبل أعوان الأسد المتنكرين بزيّ المعارضة.
العلّة في تصريحات العديد من قادة المعارضة كانت في عدم التمييز بين تحالفات الضرورة ونظيرتها المبنية على رؤى متقاربة أو على هدف مشترك؛ الأولى بطبيعتها تحالفات موضوعية وعابرة، وقد تكون قذرة أحياناً، وذلك كله مألوف في تاريخ الحروب، لكن التاريخ نفسه يعلّمنا أن عدو العدو قد يكون عدواً آخر. ورغم أن وضع النصرة على قائمة الإرهاب لم يكن بداعي الحرص على السوريين، وإنما بسبب وضع تنظيم القاعدة بكافة فروعه على اللائحة، فما لا نستطيع إنكاره في المحصلة أن هذا القرار على المدى الأبعد يعي مصلحة السوريين أفضل منهم لأنهم المتضرر الأساسي من النصرة، باسمها القديم أو الجديد وبصلتها المعلنة بتنظيم القاعدة أو بالفك الشكلي للارتباط بين الطرفين مع الاحتفاظ بالنهج الأيديولوجي ذاته.
لجريمة اغتيال رائد الفارس وحمود جنيد في كفرنبل رمزية ينبغي البناء عليها، بخاصة بعد انقضاء مفعول كافة المبررات التي كانت تُروّج هنا أو هناك للتخفيف من عبء النصرة. لا حرب اليوم تفرض في أي بقعة تحالف الضرورة، فضلاً عن السيطرة التامة لقوى الخارج على ما تبقى من فصائل مسلحة، ولم يتبقَّ من الخيار العسكري سوى استخدام تلك الفصائل بعيداً جداً عن هدف إسقاط النظام الذي يُفترض أنه هدف وجودها. أيضاً كيل الاتهامات هنا وهناك حول أخطاء الماضي لا معنى له في ظل الفشل والهزيمة العامين، إلا أن التعلّم منها واجب ضروري اليوم كي لا يكون الفشل تاماً، ومن أجل المستقبل سواء القريب أو البعيد.
من منطلق الانحياز لحق السوريين في التغيير الديموقراطي، كحق لا يموت بهزيمة أو فشل، سيكون من الأفضل الوصول إلى قناعة باستحالة أن يكون أعداء الديموقراطية حلفاء، وإلى الاقتناع بأن الإرهاب “بشقيه الشيعي والسني” مصدر خطر على مجتمعاتنا أكثر من خطره على عدوه “المشترك” المزعوم “الغرب”؛ هذه القناعة لا تحمل تجنياً على من تكفلوا بقسرنا عليها. ربما، مع الوصول إلى قناعة عامة من هذا النوع، تكون هذه التنظيمات قد أدت دوراً تقدمياً بالمعنى التاريخي!
عذراً التعليقات مغلقة