لا معارك ذات شأن تحدث اليوم في سوريا؛ توقّفُها كما نعلم مرتبط بتفاهمات دولية وإقليمية، وقبل ذلك بتمكين تنظيم الأسد من السيطرة على ما يكفي ليطمئن مع حلفائه إلى بقائه. في الحالات الطبيعية ينبغي لتراجع منسوب العنف أن يؤدي إلى عودة الحياة الطبيعية في حدها الأدنى، ووفق الفكرة المروَّجة عن حليفي الأسد “موسكو وطهران” يُفترض باستعادة السيطرة أن تكون مقرونة بتقليم مخالب الوحش، بما أنه لا يستطيع أن يكون سوى ذاته بموجب اعتراف الجميع بمن فيهم الحلفاء.
الأخبار الواردة من سوريا تفيد بالعكس تماماً؛ اليوم كافة الموبقات تُرتكب من دون توقف أو انتباه يليقان بها، وهذه الأخبار لا تلقى أي اهتمام من قبل منظمات حقوقية دولية، أو من قبل المجتمع الدولي، وأحياناً عديدة من قبل منظمات حقوقية سورية مستقلة تنشط في الخارج. في تأويل هذا الصمت؛ نحن إزاء حالة من انعدام الأمل بالتغيير، وانعدام الأمل بالحد الأدنى من العدالة، وتالياً أمام حالة ينعدم فيها أمل السوريين بحياة على منوال حيوات شعوب أخرى يحكمها الاستبداد والفساد أيضاً.
قد نقول بلا تحفظ، وعلى سبيل الاختزال، هذا هو المعنى الحقيقي لما يُسمى “سوريا الأسد”. لكن ربما الأكثر دقة استرجاع الاسم القديم للعائلة، أي “عائلة الوحش” لتوصيف الوضع الحالي. وصف “سوريا الأسد” كان قد انطلق بعد مواجهة بداية الثمانينات، ورغم وقاحته وتعدّيه على عموم التاريخ السوري كانت له وظيفة رئيسية هي إعلان الانتصار والإعداد لتوريث الحكم. أما استعادة الاسم القديم للعائلة فتفيدنا برفع تلك الغلالة من التشذيب، التي عناها يوماً ما تغيير اسم العائلة، لنعود إلى دلالة اسمها الذي أثبتت كافة المناسبات أنها لم تفارقه.
بحسب سردية العائلة نفسها فإن الجد سليمان الوحش هو الذي قام بتغيير الاسم، ولهذا الجد الذي يُقال أنه كان يتمتع بقوة بدنية مكانة خاصة لدى حافظ الأسد الذي كان يُعرف بأبي سليمان، متحاشياً التكني باسم أبيه علي. الزهو بالقوة البدنية للجد الوحش قد لا يبدو كافياً، فلا شك في أن حافظ الأسد كان يعلم تاريخ جده جيداً، وتوقيع الأخير على وثيقة تطالب الفرنسيين بالبقاء في سوريا، ومن المرجح أنه كان موافقاً على أسوأ ما في تلك الوثيقة، أي تلك الطائفية الفظيعة التي تنطق بها. وإذا أعدنا قراءتها اليوم فسيدهشنا حجم التطابق بين ما تقوله وما دأب إعلام الأسد على قوله مع بدء الثورة، وأيضاً مع ما دأب الأسد الأب على قوله أثناء مواجهته مع الإخوان.
مع التأكيد على استثناء الأبرياء من التسلط والتشبيح، إن وجدوا من أحفاد سليمان الوحش، فإن مركّب الطائفية لا يكفي وحده لتفسير السلوك الذي صار معمماً، ما لم يقترن بمركّب آخر هو تواضع المنبت مع الإصرار على تعويضه بفائض السلطة. بمعنى أن التسلط والتشبيح يعمل على مستويين؛ المستوى الطائفي الموجه إلى الخارج، والمستوى الداخلي الذي لا يخلو من أسباب عائلية تتسع مع اتساع دائرة السلطة لتصبح عشائرية.
في النتيجة، نحن اليوم أمام ما يمكن تسميته بأرض الاستباحة التامة، والحديث هنا إذا كان يبدأ بأخبار الإذلال والقهر اللذين يتعرض لهما أبناء المناطق التي ثارت على حكم آل الوحش فإنه لا ينتهي عند هذا الحد. اليوم لا أحد مثلاً يتوقف عند التفنن بالسطو المسلح، ولا أحد يتوقف عند جرائم الخطف لأسباب مالية أو بغرض إثبات التسلط فحسب. لا أحد يتوقف عند منطق العصابات الصغيرة الذي يحكم السلطة الأسدية، حيث تتصارع هذه العصابات في ما بينها، ويكون موضوع الصراع الأساسي الفائدة المالية التي يجنيها كل طرف من سيطرته على أولئك المسحوقين في نطاقه الجغرافي.
منطق العصابات يتحكم بكافة تفاصيل الحياة تقريباً، من التحكم بأية عملية بناء أو ترميم روتينية تستدعي موافقات مخابراتية لا تأتي مجاناً، مروراً إلى الاتجار بالمعتقلين من خلال بيع أخبار عنهم “زائفة غالباً” لأهالٍ متعطشين لمعرفة مصيرهم، وصولاً إلى التهديد بالاعتقال التعسفي والكفّ عنه لقاء مبالغ ضخمة. إن متابعة غير تفصيلية للوضع تكشف كيف تردّت المعيشة حتى عما يُسمى منطق الغاب، فما يسود هي الوحشية المنفلتة من تراتبية ذلك المنطق، أو ما يمكن التعبير عنه مجازياً بالانتقال من “سوريا الأسد” إلى “سوريا آل الوحش”.
لا أفق للتراجع عن الوحشية السائدة اليوم، ولا وعود كاذبة على هذا الصعيد، بل على العكس يُراد تعزيز فكرة أنها غير طارئة حتى في أذهان الموالين الذين اعتبروها من النتائج المؤقتة للحرب. الفقه الذي يقود الوحشية يتلخص في أن العالم الذي قبِل إبادة السوريين بمختلف الأسلحة المحرمة دولياً لن يكترث بما دونها، وهذه رسالة لمجمل السوريين الذين يجب ألا يساورهم أي تفكير يتعلق بالخلاص منها.
الجانب الآخر الذي لا يقل أهمية موجه للسوريين الذين شجعوا، أو صمتوا عن، إبادة سوريين آخرين. فمن يصمت عن الإبادة يفقد تلقائياً حقه في إدانة ما دونها، ولو أتت التجاوزات والانتهاكات لتطاله بعد استنفاذ عملها ضد مَن صمت على استباحتهم. في الثمانينات، بينما أُطلقت أيدي أفرع المخابرات لتعيث ترهيباً وفساداً في كافة المناطق السورية، انطلقت ظاهرة التشبيح في مدن الساحل لتصيب أولاً القاعدة الموالية، قبل تحولها إلى ظاهرة معممة مع بدء الثورة. ولأن التاريخ لا يعيد نفسه، كما تأمل تلك الشريحة الساذجة من المؤيدين أو اللامبالين، من الصعب مقارنة منسوب الوحشية المنحط الآن بذلك الذي استمر لأكثر من عقد بعد الانتصار النهائي على الإخوان المسلمين. وإذا كان ماركس قد قال يوماً أن التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة ومرة على شكل مهزلة، فإننا نجد خليطاً بائساً من الاثنين في الانتصار الذي مُنح لآل الوحش.
الاستثناء الوحيد الممكن أن يكون المعنيّ جزءاً من الآلة الوحشية، ورغم أنه يصبح خياراً لمزيد من المترددين أو الخائفين لكنه بالطبع لا يتسع سوى للنسبة الأٌقل على قاعدة أن الغنيمة ينبغي أن تضم السواد الأعظم من السكان. وأن يكون هذا وحده سبيل الخلاص المؤكد فهو يعني تربية المزيد من الوحوش التي تأخذ فرصتها أو لا تأخذها، ولقد رأينا أمثلة على نجاح الأسدية القديم من خلال نماذج سياسية وعسكرية معارضة بما يكفي لنتخوف من النتائج المحتملة للوضع الراهن.
عذراً التعليقات مغلقة