* فراس علاوي
أن تعمل بمهنة وتتقنها شيء وأن تتخلق بأخلاقها شيء آخر، القسم الذي يقسمه الأطباء رغم رمزيته هو دليل على حفاظك على أخلاق المهنة
لكن أن تكون أخلاق هذه المهنة أقوى من طبيعتك البشرية وغريزتك التي ولدت عليها هنا تكمن المفارقة!
في حالات الحروب تكون المشاعر جياشة وبذات الوقت تتحول إلى متبلدة حال وقوع الصدمة.
كلٌّ منا كان يتوقع أن يصبح جثة هامدة في أي لحظة، ذلك اليوم طائرات النظام لم تغادر سماء المنطقة، الجميع يترقب، ترى ماهو الهدف القادم؟! الأطفال قلوبهم معلقة بعيون أبائهم التي تبحث عن مسار الطائرة، من خبرة الدمار التي اكتسبناها أصبحنا نعرف مسارات الطائرات وكيفية استهدافها لأهدافها، كان المدنيين أحد أهم أهدافها.
في المشفى ننتظر سماع الانفجار وكلام جهاز الاتصال لتحديد مكان الاصابات لتنطلق سيارات الاسعاف لإنقاذ من تبقى من مصابين بعد أن يكون الموت قد حصد ما حصد من أرواح.
كادر المشفى كان مجتمعاً يترقب، فهم لم يكونوا بعيدين عن الموت مقدار صاروخ يصل من السماء حيث كانت المشفى من أولى أهداف النظام، بدأت الأخبار تتوالى أن طائرات النظام قد إرتكبت مجزرة بحق المدنيين حين استهدفت مجلس عزاء.
الأخبار بدأت تصل عن طريق أجهزة الاتصال أن عدد الشهداء كبير والجرحى أكثر، من معرفة مكان قصف الطائرات عرفنا أنه استهدف أقارب زملاء كانوا معنا، كان مجلس عزاء لأحد أقاربهم، بدأت سيارات الإسعاف وسيارات المدنيين المسعفين، كان عدد الجرحى كبيراً مما استدعى استنفار الطاقم بالكامل.
أبو حلا مساعد الجراح المبدع والذي يضاهي بخبرته الجراحين كان داخل غرفة العمليات يستقبل الاصابات والجرحى ويقدم خبرته لرفاقه ويساعدهم.
كان الخبر صاعقاً على الجميع، المصاب الأول الذي وصل هو عم أبو حلا، شقيق والده، وصل بحالة خطرة ويحتاج لعملية فتح بطن وتعويض دم، بدأ أبو حلا العمل ولم تمض دقائق حتى وصل خبر استشهاد شقيقه وعدد من أقاربه!
الوضع الطبيعي لأي إنسان واتباعاً للفطرة التي جبل عليها أن ينهار، فماحدث أكبر مما يحتمله عقل أو عاطفة.
لكن أبو حلا كان رجلاً، وكأنه من كوكب آخر، استمر في عمله يتابع العمليات الجراخية ويشرف عليها وكأن ماحدث لإنسان آخر لايعرفه، تسامى على جرحه وألم الروح الذي أصابه ليكون إنساناً جديراً بعمله الإنساني الذي آمن به.
كان لسان حاله يقول: الحي أبقى من الميت. غرفة العمليات كانت أشبه بخلية نحل، أسرة العمليات تحمل الجرحى وطاقم المشفى يقدم أقصى مايستطيع، الساعات تمر والثواني لها قيمتها.
يقول أحد فنيي التخدير خفت أن أباشر العمل الجراحي مع أبو حلا كونه متوتر بسبب استشهاد شقيقه والمصاب عمه والاصابات الأخرى من أسرته، لكنني سرعان ما استمديت منه القوة والثقة بالنفس حينما شاهدته يبدأ بالعمل الجراحي وكأن شيئاً لم يكن!
قصة أخرى حملتها لنا الأقدار لتحدث أمامنا، بدأت الأخبار ترد أن الجيش الحر بدأ بأقتحام إحدى النقاط على محيط المطار، وكالعادة كان الطاقم الطبي على أهبة الاستعداد.
وصلت الإصابة الأولى وكانت شظية في البطن سرعان مابدأ طاقم المشفى بتجهيزها للعمل الجراحي.
الدكتور هاني كان جاهزاً لبدأ عملية فتح البطن ينتظر إشارة المخدر حين دخلت إلى غرفة العمليات إصابة أخرى، كان المصاب قد وصل شهيداً ومع ذلك فقد كان لابد من التأكد من ذلك، ترك الدكتور هاني المصاب ليلقي نظرة على القادم الجديد لغرفة العمليات يمسح الدم عنه ليفاجأ أنه إبن خالته، كان رد الفعل طبيعياً أن يشعر للوهلة الأولى بالصدمة، ومن ثم وبعد لحظات يغير الدكتور ملابسه ويطلب كفوفاً جراحية جديدة ليقول للمخدر: هل أنت جاهز لنباشر بالعملية؟!
عندما تسمو فوق الجراح والألم تصبح إنساناً آخر فوق التصور، تصل لحدود الخيال.
هي ليست لوحات سريالية أو أحاديث من المدينة الفاضلة، هي أحداث جرت على أرض الواقع، أحداثها جرت بيننا.
عذراً التعليقات مغلقة