هناك في سورية، في جمهورية الموت المتعدد الماركات: الموتُ تعذيباً، والموت رمياً بالرصاص أو رمياً بالأحزان، أو بالحصار والجوع أو باستخدام المبيدات البشرية.
والموت المتعدد الجهات: إنه الموت، لافرق بين من يموت بيد القاتل بالأصالة عن نفسه، أو بيد القاتل بالوكالة عن غيره، أو تنفيذاً لما سُمّيَ ظلماً (قانوناً)، كُتبَ بعنجهية السيادة، ودماء الأبرياء، ونجيعهم المتخثر على سلاسل السجون.
ولكي لا ينال الشّططُ من كلماتي أكثر من هذا أغرزُ قلمي في متن الموضوع.
فلقد صدر بتاريخ السابع من تشرين الثاني نوفمبر 2018 تقريرٌ عن الهيئة السورية لفكّ الأسرى والمعتقلين يفيد بأنّ الموت يتربّص بأحد عشرَ معتقلاً مدنياً في سجن حماه المركزي، صدرت بحقهم أحكامٌ إعدامٍ سابقة ومؤجلة التنفيذ منذ عام 2016 عن المحكمة الميدانية العسكرية في دمشق.
إلا أنّ ما استجدَّ أنّه بُوشِرَ بالاجراءات التمهيدية لتنفيذ هذه الأحكام ،حيث تمّ الطلب من إدارة السجن المذكور بترحيل هؤلاء المحكومين إلى سجن صيدنايا في دمشق، وهذا الإجراء كما هو معروف في قاموس المحكمة الميدانية يعني أنّ موعد تنفيذ الإعدام قد حان.
ولأنّ هذه المحكمة تدخل في عداد المحاكم الجزائية الاستثنائية التي لا تتقيد بالأصول والإجراءات القانونية المنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات الجزائية، والتي تعتبر ضمانات لمحاكمة عادلة، كما أنّ أحكامها تصدر مبرمةً لا تقبل الطعن بأيّ طريق من طرق الطعن أبداً، ولا يُسمح حتى للمتهم بحق توكيل محامٍ يدافع عنه. لذلك تعتبر من المحاكم الاستثنائية التي أنشأها النظام لإقصاء المعارضة والتخلّص منها.
فقد أعدم آلاف السجناء السياسيين في سجن تدمر العسكري تنفيذاً لأحكامٍ كانت ممهورة بختم المحكمة الميدانية في عهد حافظ الأسد.
وينطبق على هذه المحكمة حكم المادة الثامنة من نظام المحكمة الجنائية الدولية لعام 1988، حيث تعتبر أحكامها جريمة حرب في زمن الحرب.
جاء في المادة المذكورة (تعتبر جريمة حرب تنفيذ أحكام الاعدام دون وجود أحكام قضائية صادرة عن محاكم مشكّلةً تشكيلاً نظامياً تكفل جميع الضمانات القضائية المعترف بها على أنه لا غنى عنها) كما تعتبر جريمة ضد الانسانية في زمن السلم.
واستناداً لتلك الوقائع والمعطيات، فقد صدرت خلال السنوات الماضية من عمر الثورة السورية عدة قراراتٍ دولية صادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، والمفوضية السامية لحقوق الانسان، ومنها على سبيل المثال القراران 2042 و2043 لعام 2014، والقراران رقم 2139 و2191 لعام 2014 وآخرها القرار 2401 لعام 2018 تطلب فيها من النظام ضرورة إطلاق سراح كافة المعتقلين على خلفية الانتفاضة الشعبية التي تشهدها سورية منذ ربيع عام 2011. دون أن يأبه النظام بتلك القرارات وتكرارها فلم يطبق أيّاً منها.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا؛ هل تملك المنظمات الدولية تلك سلطة مناقضة القانون الداخلي للدولة (سورية) عندما تتعارض مع أحكام القوانين الداخلية التي حكمت بموجبها بالإعدام مع قرارات المنظمة التي قررت عدم قانونية تلك الأحكام وطلبت التراجع عنها وإطلاق سراح المعتقلين، أم أنّ القانون الداخلي الذي قضى بالإعدام له الأولوية في التطبيق، وبالتالي يمسي مصير هؤلاء حبل المشنقة؟
وقبل الإجابةِ على هذا السؤال المصيري، حريٌّ بنا أن نذكّر أنّ قواعد القانون الدولي وضعت بعض الشروط المقيِّدة لسلطات المنظمة الدولية في معرض اتخاذها قراراتٍ تمسُّ أو تتعلق بالدولة العضو فيها كسورية مثلاً. وتستند هذه القيود إلى مبدأ (سيادة الدول) الراسخ في القانون الدولي والعلاقات الدولية، ومفاد ذلك أنّ إلزام الدولة العضو في المنظمة الدولية بتطبيق قوانين ليست قوانينها ولم تصدر عن السلطة التشريعية فيها على مواطني هذه الدولة يُعتبر افتئاتاً على سيادة هذه الدولة وانتقاصاً منها، ولذلك فإنّ تطبيق القرارات الدولية مقيدٌ بالقيود التالية:
1- عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول سند اً للفقرة 7 من المادة 2 من ميثاق الأمم المتحدة.
2 – لا يجوز أن تناقص قرارات المنظمة الدولية معاهدة إنشائها أو تناقض قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي.
3 – عدم جواز تطبيق قرارات المنظمة الدولية في نطاق القانون الداخلي مالم تتبنّى هذه الدولة تلك القرارات وتوافق عليها وتعيد إصدارها من قبل السلطة التشريعية المختصة لديها.
بعد ضمان توفر كل تلك الشروط والقيود الصعبة التحقيق إن لم تكن مستحيلة، يمكن للسلطات القضائية والتنفيذية اعتبارها جزءاً من النظام القانوني الداخلي الواجب التنفيذ.
من الواضح أنّ تلك القيود تكبح إلى حدٍّ كبير ٍ من القوة الإلزامية لقرارات المنظمات الدولية.
وأمام تحديد مدى القوة الالزامية للقرارات المذكورة أعلاه انقسم الفقه الدوليّ إلى اتجاهين:
الأول – أصحابه متساهلون مع مبدأ سيادة الدول،حيث اعتبر هذا الاتجاه قراراتِ المنظمة الدولية بمثابة التشريعات الداخلية، وبالتالي اعتبرها ملزمة للدول الأعضاء في المنظمة، وبالتالي عليها تطبيقها.
وتأسيساً على ذلك: فإنّ القرارات الصادرة عن المنظمات الدولية بخصوص قضية المعتقلين في سجون النظام عقب الثورة ومن ضمنهم سجناء سجن حماه المركزي الأحد عشر. والتي قضت بإطلاق سراحهم تُعتبر نافذةً ويجب على النظام السوري الالتزام بتنفيذها.
الثاني – وهم من نادى بمبدأ سيادة الدولة، فيغلّبون القانون الداخلي على قرارات المنظمات الدولية عند التعارض وبالتالي تُطبّقُ أحكام الإعدام بحق المحكومين.
والأمر المؤسف حقاً أن أنصار الاتجاه الثاني هم من تغلبوا على أنصار الاتجاه الأول، ومن الطبيعي أن يكون النظام السوري من أصحاب هذا الاتجاه لأنه يوفر له الحماية في ارتكاباته الوحشية بحق المعتقلين.
إن أفدح ما في قواعد القانون الدولي وقرارات المنظمات الدولية أنها تفتقر إلى المؤيد الإلزامي لتنفيذها، وهذا ما سبّبَ ويسبّبُ إزهاق أرواح آلاف الأبرياء في سجون الأنظمة المستبدة، لتموتَ الانسانية تحت سنابك مبدأ سيادة الدولة.
عذراً التعليقات مغلقة