يشترك البشر في التعاطي مع الكثير من القضايا الجمالية، أكثر من تعاطيهم مع القضايا الدينية والأخلاقية، وتهفو أنفسهم لها _ إن لم أقُل كلهم، فعلى أقل تقدير عمومهم _ مثل جمال الورود، الغناء الجميل، الموسيقى، لوحات بريشة وجدان، منحوتات ذات فكر إنساني، حتى إن الاهتمام بجمالية بعض الأعمال أقدم من النظريات العلمية التي أوصلت التكنلوجيا والعلوم التطبيقية إلى التطور الذي نراه اليوم، فاهتمامنا مثلاً بملحمة جلجامش وجمالها والتي عمرها آلاف السنوات، ثابتٌ في ضمائرنا وذاكرتنا، في الوقت الذي أضحت فيه الكثير من النظريات العلمية التي أسست لعلوم اليوم أثراً وحسب في كتب تاريخ العلوم.
حتى في مفهوم الجمال بالنسبة للأحداث القاسية، حيث تكون بمثابة متناقضة فكرية من حيث المعنى الحقيقي لأشياء سيئة لكنها جميلة، أو بمعنى أدق الطريق لتحقيق تلك الأشياء الجميلة لا بُدّ هو مليءٌ بالأشياء السيئة والقاسية والتي تُدمي القلب.
كانت فترة الثمانينيات والتسعينيات مليئة بالاعتقالات لأصحاب الكلمة والرأي المناهض لنظام الأسد، ومن عدة مشارب فكرية وسياسية وإيديولوجية، وهذه الفترة هي التي نمت فيها شخصيتي ومخزوني الفكري، مُتأثراً بالجوِّ العام المتمحور حول فكرة التغيير والثورة، وكلُّ فصيلٍ فكري أو سياسي أو ايديولوجي كان يُنظِّرُ لها من وجهة نظره، وبحسب كمية الخوف التي تملأ مكان صناعة برنامج التغيير الحذر والحالم بالتغيير الجذري.
كل الأدبيات التي انتشرت في صفوف المجتمع في تلك الفترة تمحورت حول المحظور والمسموح، بحسب مقياس السُلطة، وكان شعور التمرد لسبر غور الممنوع وتكوبن الاسطورة الشخصية هو المسيطر على الأغلب الحالم بالتغيير.
وبقي الاعتقال هو وسام النضال والنتيجة الطبيعية لأي تمرد فكري وشهادة تخرج من المجتمع في التضحية والإيثار، والعمل ودفع الثمن عن الجميع لخير الجميع، وهو ما أضحى حُلماً لدي في أن يأتي اليوم الذي يتم اعتقالي فيه، نعم كان حُلمي، وهاجسي وضمن الحيّز العام المفتوح للمغامرة، كنتُ أثبتُ نفسي لنفسي بأنني لا أسكت عن الأخطاء، وأعالجها شعراً رمزيَّاً مجازيَّاً، وعندما كانت تتاح لي فرصة المنابر كنتُ أختار أكثر الثياب قُرباً لقلبي والشكل الذي يستهوي شعري وعمق تفكيري، خليطً من آثار ذاكرة حركات التحرر في العالم، أتأنّق بها وأصعد المنبر، تلكَ كانت رؤيتي لجمال اللحظة، قضية التحرر التي يجب عليَّ أنا أكون جميلاً عندما أتحدَّث بها شِعراً، وفي بقية مناسبات حياتي لم أكن لأكترث بما ألبس وكيف يمكن أن يكون شكلي الظاهري.
وأتت الثورة السورية العظيمة، لأُولد في داخلي من جديد بلا بُكاء، مثل الفراشة التي تُمزِّق شرنقتها وتُعانق السماء بأجنحتها الطرية طيراناً لأول مرة، ومضت الأيام والشهور والسنوات، نجوت فيها من كل ما هو سيء، وحدث لشعبي الثائر العظيم، وظلَّ حُلم الاعتقال يُرافقني، رغم تنفيذي لكل شروط الأمان في عملي الثوري، وهذه المتناقضة الجميلة التي كنتُ أدور ضمنها في رسم أحلام يقظةٍ وأنا أوثّق اعتقال الرفاق والأحبة الذين أعرفهم أو لا أعرفهم، وأدرء عن نفسي خطر الاعتقال وأتمناه.
وعندما اعتقلتُ مثل أغلب أبناء بلدي الذين امتلأت بهم سجون النظام السريَّة والعلنية، في فرع الجوية في مطار حماة العسكري، وبعد انتهاء التحقيق معي بقي لدي بعض الوقت في انتظار اليوم الذي أخرج فيه من هذا الجحيم إلى جحيمٍ أخف وطأةٍ على قلبي، إلى الشرطة العسكرية لعرضي أمام المحكمة، سيطر على تفكير في وقت الانتظار هاجس رؤية الآخرين لي بعد خروجي من هنا، رغم جهلي الكامل إلى أين سيأخذونني، ولكن عامل الأمل بالنجاة الذي يلازم المعتقل في كل لحظة تمر من اعتقاله، في تلك اللحظات كنتُ قد نسيتُ شلل جسمي المؤقت وما أصابه من عطب، وجُلَّ ما كنت أفكر به هو ما يجب أن أفعله لأُحَسِّن من شكلي قبل خروجي من هنا، فلا بُدَّ من فعلٍ شيءٍ يجعل مظهري جميلاً قدر الإمكان، لأكون أهلاً لاعتقالٍ هو سمةُ ثورتنا الجميلة.
لا زلتُ بلا ثياب، وشعري الطويل الأجعد كان واقفاً بشكلٍ عشوائيٍّ على رأسي بسبب عدم الاستحمام وخطٌّ عريضٌ من القيح الأصفر اليابس ينزل من أذني المثقوبة والملتهبة ليصل إلى أسفل لحيتي الطويلة نسبياً، تلك إشكالات مظهري، ومع شللٍ في يديَّ وأكتافي وعدم وجود أيُّ أشياءٍ في الزنزانة يصبح شبه مستحيلٍ تحسين المظهر الجمالي، وبعد إعمال العقل بهدوءٍ أشبه ما يكون ممارسة لرياضة “اليوغا” ضمن توفر رفاهية الانتظار، وبعد جهدٍ كبير في تطبيق الفكرة العظيمة قمتُ بما ساعدتني به أصابع يدي الملتوية إلى الداخل من المعصم ضمن حركةٍ محدودةٍ بما يسمح به الشلل المؤقت، سحبتُ ثلاثة خيطانٍ من نسيج غطاءٍ عسكريٍّ مهترئ وقمت بجدلها مع بعضها بطول ثلاثين سنتمتر تقريباً، ولكي أستطيع الإحاطة بشعري وربطه قمت بالركوع على ركبتي وجبيني ملتصقٌ بالأرض، وبعد عدة محاولاتٍ في مدَّ يدي وضم شعري وربطه بالخيطان المجدولة استطعت تحقيق المعجزة بربط خصلة شعرٍ صغيرة، وأثناء محاولتي ربط شعري كان احتكاك وجهي خلال وقتٍ طويل كفيلاً بتكسير خطِّ القيح عن لحيتي وجِهَةُ وجهي اليسرى.
وفي المساء الذي سبق صباح تحويلي، أدخلوا إلى زنزانتنا شابّاً كنت أعرفه من قبل، ويبدو بأنهم اعتقلوه بطريقة وحشيةٍ جداً بسبب الكدمات الواضحة التي ملأت وجهه والتمزّق الجزئي بثيابه، وبعد حديثٍ طويلٍ بيننا أعطاني بنطاله الجينز المقطوع الأزرار وسترته التي فقدت سحابها، وبعد أن ربط لي خصر البنطال بخيطٍ مجدول لكي يبقى ثابتاً على خصري، نمتُ ملء عيني حالماً بحريةٍ ألتقي فيها بالكون بعد نجاةٍ ضئيلٌ احتمال حدوثها، من هذا الجحيم الأسدي.
أصبحت جاهزاً لأستقبل النهار بما يحتويه من كل الاحتمالات السيئة ولكن بتوازنٍ جماليٍّ لذاتي المولودة في حضن ثورةٍ جميلة.
عذراً التعليقات مغلقة