ثمّة كميات هائلة من الرعب والجرائم المرتكبة بحق من كان يُعارض النّظام السّوري قبل أن تصل الثورة السّورية إلى مراحل العسكرة ومرتزقتها، وإنّ عدد من قُتل تحت التّعذيب الأسديّ يفوق بمئات المرات عدد من سقط من مقاتلي الفصائل “المعارضة” حسب تقارير إعلامية مؤخراً، وبالتالي فإنّ صوت الحراك السّياسيّ المُعارض كان يُخيف الأسد بل ويجعله في قمّة استنفاره الأمنيّ للرد على أيّ صوت عاقل يحترم السّلميّة. وبدخول خرائط المليشيات الطائفيّة الموالية له أو الّتي كانت ضدّه بمختلف ولاءاتها، إلى الأرض السورية، بات من الصعب أو المستحيل قراءة هذا الواقع الاجتماعيّ والسّياسيّ لبنية الداخل السّوري سواءً أكان تحت يد حلفاء النّظام أو حلفاء المعارضة، وأستخدم هنا تعبير “حلفاء” ذلك أنّ الأصل من أطراف الصّراع السّوري-السّوري لم تعد تؤثر على الأرض حسب ما أعتقد! وتقف أعمدة تلك البُنية وصلابتها على تقديم الخدمات للحلفاء بما فيها فتح المعابر والقواعد العسكريّة لهم، مقابل الدعم الدولي والتزويد بصفقات الأسلحة. بينما الطائرات الاسرائيليّة تستهدف “خُصومها” في العمق السوري بالتوقيت والشكل الّذي تراه مناسباً، بمعزل عن كلّ الحرب السّورية بثورتها وتصفية حساباتها السّياسية وجوع أهلها للسلطة والدم.
فمن يا ترى يمكن أنّ يرى بعد الآن في تلك الهيئة المُسمّاة “سلطة” في الداخل السّوري على أنّها “حضن وطن” مثلاً، بل وتُصدر “مراسيم” العفو وقوانين “الإسلام السّياسيّ” وعقود الاستثمار الإيرانيّ في الطّاقة والتّعليم والاقتصاد وتقدّيم الثّروات الباطنيّة والمواقع الاستراتيجيّة والأثار لروسيا، مقابل أن يبقى شكل “الدولة” بيد حزب البعث المُتهالك؟
يحدّثني بعض الأصدقاء من الداخل والخارج أحياناً على أن الثّورة انتهت…! “توقّف عن الكتابة لمناصرتها” أجيب وبكلّ بساطة أنّ الثّورة مع اندحار العسكرة المُباعة لا تكون قد انتهت، ذلك أنّ السّلاح أساساً كان حجة وأداة للنّظام وأتباعه، لسحق الإرادة الشعبيّة بالانتفاض على الظلم والمطالبة بالحريّة والعدالة والمساوة، فكانت تجربة الفصائل مقتلة كبرى للمظاهرات، وما يحدث من حراك شعبيّ لخروج مئات الآلاف في الشمال السوري بين إدلب وريفها، في مظاهرات أسبوعيّة منذ أشهر، يثبت بالدليل القاطع أنّ الثّورة عادت من جديد إلى أهلها! فكيف يريد بعض النّاس أنّ نتوقف عن الكتابة؟ لأن العسكر فشلوا في تكريس حلول سياسية تتماهى مع طموحات من خرجوا للتظاهر وتغيرت حياتهم وخسروا مدنهم وذكرياتهم، وربما مستقبلهم بالبقاء في البلاد على المدى المنظور؟ كلّ ذلك سوف يعلّم الأجيال السّوريّة القادمة ألاّ تسكت عن حقّها بالحريّة في تقرير مصيرها وحقّها بالثّروات السورية تحت الأرض وفوق الأرض الّتي حوّلتها مخالب هذا النّظام لبنوك تدفع لحسابات العائلة الوارثة للحكم بالقتل والإرهاب. وهل تغيّر شيء من ذلك لنتوقف عن الكتابة ونفكر في “حضن الوطن” الّذي سيّجه هؤلاء بالمقصلات ومحاكم التفتيش والتّهم البعثيّة بالتخوين، الجاهزة لكلّ من أيّد الثّورة والمظلوم؟
هل نظرنا للحظة إلى مدارس الأطفال الّتي لاتزال تقوم كلّ صباح بـ”القسم الطليعيّ البعثيّ” بل وبتطرّف وعنف ودمويّة على “الجّهاد فداءً لبشار”؟
هلّا جرّبنا متابعة أنشطة الهيئات الرّديفة لهذا الحزب وهي تمنع أي مؤسسة أهلية مدنية مستقلة، من العمل الإغاثي أو السّياسي ما لم ترفع صور “القائد الرمز”؟
هل نعتبر النّصف ثورة الّتي جرفت معظم البلاد إلى دمار وتهجير على أنها انتهت هكذا إلى نصف مجهول؟
بالتأكيد لا! لن نتوقّف عن الكتابة ودفع النّاس للتفكير مجدداً بالتّغيّير والنّضال للوصول إلى دولة القانون والعدالة وفصل الدين عن الدولة، والجميع تحت القانون من حاكم البلاد إلى أصغر موظف في المؤسسات ليكون تحت القضاء، وبمناسبة هذا الأخير، هل هو حقاً موجود في بلدنا؟ هل يستطيع أن يقاضي قادة وعناصر أبنية الضباب الّتي قتلت وتقتل الشباب السّوري لأنّهم تظاهروا ضدّ النّظام؟ هل هناك ضمانات لسلامة العائدين “لحضن الوطن” حقاً؟ إذاً دعونا نشاهد هؤلاء الذين تصالحوا مع الضامن الروسي في الجنوب السّوري مؤخراً، كيف يتم دفعهم للموت أمام عناصر “تنظيم الدولة الإسلامية”؟ وكيف تتم ملاحقتهم ومصادرة ممتلكاتهم واغتيالهم بالتدريج لأن أدوارهم قد انتهت؟
هذا هو الحضن الّذي يريدون العودة له، حضن الذلّ والبلاد العرجاء، تلك الّتي لن نسكت أمام التاريخ بالدفاع عن حق أهلها بالحريّة لآخر رمق ضد هذا الحضن القاتل المفروش بالدبابات والمزروع بالكيماويّ حيث تُحصد رؤوس الأحرار عادة في أقبية الرعب وبدعم أصحاب مفاوضات الإرهاب “الوطنيّ”!
عذراً التعليقات مغلقة