في أحد الأيام كنت في سوق حلب القديمة برفقة أحد الأصدقاء، و كان صديقي متطوعاً في المخابرات.
نادى المؤذن لصلاة الظهر، فقال لي صديقي: ما رأيك أن نصلي جماعة في المسجد؟
دهشت من صديقي، رجل مخابرات يريد أن يصلي جماعة في المسجد، قلت في نفسي “يا هادي يا رب”.
قلت له: فكرة طيبة، ومنها نتوضأ ونجدد نشاطنا بعد أن أصابنا التعب.
توضأنا ودخلنا إلى المسجد، وما أن انتهينا من الصلاة، حتى وجدت المصلين اصطفوا حول الإمام وراحوا يتزاحمون على تقبيل يده، وكان الإمام رجلاً في متوسط العمر، بلحية سوداء طويلة قليلاً، تشوبها بعض شعرات الشيب، وبيده سبحة طويلة، وكانت تبدو على الشيخ علامات المهابة والوقار.
قال صديقي انتظر قليلاً، عندما ينفض الناس سنسلم على الشيخ.
وقفنا جانباً حتى خرج آخر رجل فأقبلنا عليه.
المشهد الذي شاهدته من تدافع الناس على الشيخ، ووقاره دفعا بي وبدون أي تردد إلى تقبيل يد الشيخ بعد أن سلمت عليه، كما قبلها من قبلي معظم المصلين.
وما أن انتهيت من تقبيل يد الشيخ، حتى مد صديقي قدمه، وقال للشيخ : قبل رجلي يا شيخ!
صعقت من هول الواقعة، ركضت على صديقي وقلت له: لا يجوز اتق الله يا أبو فلان.
رد الشيخ: أبوس إيدك يا سيدي، سايق جاه الله عليك، إلا أن صديقي يقول له: لن أرضى إلا بتقبيل قدمي، أقبلها لكن ليس الآن يا سيدي.
ما بين إصرار صديقي وتوسلات الشيخ وتدخلاتي دخل رجل فقطع المشهد.
أخذ صديقي الشيخ جانباً وتمتما قليلاً ثم غادرنا.
كنت أغلي وأثور من الغضب في داخلي ، وقررت أن أقطع علاقتي مع صديقي نهائياً، على هذا التصرف الوقح.
قلت له: لماذا فعلت هكذا يا أبو فلان، ألا تخاف الله؟
قال لي: لا تستغرب؛ دعنا نخرج من السوق وسأحكي لك قصة هذا الشيخ بالتفصيل.
بعد أن خرجنا من زحمة السوق بدأ صاحبي يسرد علي قصة الشيخ.
قال لي: هذا الشيخ ليس بشيخ، تم تعيينه في هذا المسجد الهام من قبل إدارة المخابرات، منها لمراقبة السوق ومنها لكي يجمع ما يمكن جمعه من مال، حيث كما تعلم هنا معظم تجار حلب، وتم الإتفاق أن يكون لإدارة الفرع النصيب الأكبر مما يجمعه من تبرعات و زكاة. لكنه لم يكن يقدم إلا اليسير من المال، بحجة أن التبرعات قليلة، وبالصدفة اكتشفنا أن لديه شقة فخمة، ثمنها ملايين الليرات، في أحد أحياء حلب الراقية. وبعد المتابعة الحثيثة ولحسن الصدفة تبين أن الشقة مستأجرة من قبل عاهرة لها علاقة بالفرع. فتواصل معها الشباب، وطلبوا منها أن تستقدمه إلى البيت وتصوره صورة غير لائقة، بطريقتها الخاصة، وتم ذلك بعد أن تعاونت مع إحدى صديقاتها، وقد تم تزويدها بكاميرا خاصة.
كنت شارداً مذهولاً بينما صديقي يحكي تلك القصة الأشبه بقصص الخيال البوليسية.
صحيت على وكزة من يد صديقي وهو يقول لي: هل عرفت ليش بدي الشيخ “يبوس” رجلي؟
قبل أن أستودع صديقي قال لي: إياك أن تتذكر أو تذكر هذه القصة لأحد، لأنك لو فعلت هذا، فلن نرى لا أنا ولا أنت النور من بعدها أبداً.
بقيت في غير وعيي لعدة أيام، ثم نسيت القصة فعلاً.
في بداية الثورة انشق صديقي عن النظام، لكنهم تمكنوا من اعتقاله ذات يوم، ثم استشهد تحت التعذيب بعد عدة أيام من اعتقاله.
- ملاحظة: القصة حقيقية حدثت مع أحد الأصدقاء بكامل تفاصيلها.
عذراً التعليقات مغلقة