أوطاننا مقابرنا أينما حللنا.. “جوا أو برا”

راما الزيات12 أكتوبر 2018آخر تحديث :
راما الزيات

منذ جريمة التهجير التي ارتكبها الأسد في منتصف هذا العام في دمشق، وبعد افتتاحه ممرات للعبور نحو المنازل المهدمة والمحترقة في تلك المناطق، يكرر أبي على مسامعنا كل يوم أمله بالعودة إلى البلاد، يتحدث بشكل حكيم عن أفكاره في إعادة منزلنا المنهوب لوضع يصبح فيه صالحاً للعيش. بينما يفتح أوراقه التي حملها من سوريا في غربتين أو ثلاثة، متحدثاً عن “مالكاناته” الموزعة هنا وهناك وأن علينا أن لا نفرِّط فيها ونحن نرسم طموحاتنا خارج دائرة الوطن المقيّد بالدم والنار والأسى.

أمي تبادله الأمل كذلك، وكلما بالغنا بالحديث عن خططنا لإكمال دراستنا أو الخروج من أماكننا المظلمة، نراهم يبادلون وجوهنا الساعية بتجهم وعبوس: “بدك تتركي البلد لهدنك الكلاب يا بابا؟”.. كما يحاول والدي أن يستعطفني، لا أدري استعطافاً أم أنه حقاً يمسكني من يدي التي توجعني، هذا إن فرضنا أنها لا زالت توجعني أصلاً.

تبقى فكرة العودة حاضرة في أحاديثهم رغم كل محاولات توصيفي لما آلت له البلاد اليوم، ولشتاتنا فيها قبل أن نكون خارجها، لكل الظلم الذي بات مقبولاً داخلها، ولكثير من محاولات الخوض في الحياة حتى رغماً عن أفكارنا التي ليست جزءاً من عبث العيش هناك.

تقول ناهد بعد أن اضطرت للتقدم والعمل في أحد المنظمات التابعة مباشرة للنظام إن الأمر كان ضرورياً: “إذا بدك تعيش هون لازم تشتغل ولو كان بضراب السخن”، مضيفة أنها تحاول البحث عن فرص أخرى، تبعاً لرأيها بعد أن صارت محاولات الخروج من الوطن مستحيلة فعلينا على الأقل محاولة البقاء بأقل ضرر ممكن. متسائلين ما هو الضرر الأكبر؛ مواجهة العالم الكبير جداً المتمثل بنظام مجرم؟ أم مواجهة الموت بمحاولة البقاء على قيد الحياة كيفما كان السبيل؟

تسعى نور أيضاً وهي تطرق كل أبواب المؤسسات والمدارس في دمشق لتبحث عن عمل يكفي مصروفها الشخصي على الأقل مؤكدة أنها مستعدة للصمت أمام حرب اللقمة الثقيل هنا في العاصمة، وبعد سؤالي لها عن أفكارها وإيمانها أجابتني: “كل شي ما عاد يطعمي خبز هون، عم ناكل قهر وذل بالحالتين بس ع الأقل نقدر نحصل لقمة الخبز وناكلها آخر النهار”… ترسل صورة لابنها الصغير الذي يستعد للدخول إلى المدرسة في العام القادم مضيفة: “ما سيحتاجه في المدرسة من مصروف يعادل حاجتنا الطعامية لأشهر”، نور مطلقة منذ سنتين وتعيش في منزل والدها.

في حين يتكفل أبو حسام بأطفال ابنه الشهيد وحيداً مع زوجته ويعيشون في منزل صغير مستأجر في دمشق، يعمل أبو حسام بعمل يناسب عمره السبعيني ولا يناسب غلاء العيش هناك، محتسباً يقول: “لمين اتركهم يعني؟ ربك بيبعت الرزقة.. الله يرحم أبوهم”.

ليست هذه دمشق التي عرفها والدي ولا تلك التي عرفناها، غريبة صارت بعد ما آمنا بها وبانتمائنا لها بلاداً ووطناً وملجأً من جحيم السلب والظلم إبان الثورة، عادت غريبة كما عرفناها، لا نُنسب لها إلا عندما نضطر آسفين لطلب ورقة رسمية، ونهرب من تذكرها كي لا يجرنا الحنين لما لم يعد لنا بقدر ما كنا فيه. ما بين سمة الاغتراب التي تفرضها علينا أختام جوازات السفر ومسمياتها الكثيرة من لاجئ ونازح ومقيم ومخالف، وبين ثقل البلاد التي تعيش فيها باسم المواطن الذي لا يمتلك حتى حق الإدلاء بسخطه.

هي الحرب الأخيرة التي يفرضها النظام على تلك الأرض، ليكفيها شر التفكير خارج خطه المرسوم، ويعيدها تحت سطوته وسيطرته بسوط التجويع الذي اعتمده إما داخل المدن التي يسيطر عليها فلا ينفك القاطن أو المسجون فيها عن السعي الدؤوب لتحصيل القليل من المال كافياً نفسه وأهله ذل العيش ووطأة الجوع، مكتفياً بذل الحياة والصمت. أو تلك التي مارسها مسبقاً على المدن المحاصرة الخارجة عن سيطرته فكانت سلاحه الأول بعد القذائف والبراميل التي كان يمطر بها تلك المدن.

الصمت هو سلاح العيش الأوحد في دمشق والذي لم يعد لنا حق لوم القاطنين فيها بعد كل هذا، رغم أننا نلومهم بما امتلكنا من حلم قاسمناهم إياه ذات يوم. بعد أن تحولت دمشق لمدينة بوجوه غريبة، أو بظلال أشباح من أهلها الساعين بصمت وخوف في حواريها الضيقة التي كان مليئة بتفاصيل الحياة، هناك قطع ناقص في دمشق، هناك روح مجتزأة.

في الفترة الأخيرة كتب أحد الذين عرفتهم جيداً في الثورة عن شعوره التعيس بعد مرض السيدة الأولى في سوريا، وأنه يتمنى لو كان قادراً على منحها حياة أطول لتصون البلاد وتعمل لأجلها، وأنها ياسمينة دمشق التي لن تذبل. كانت فكرة اختصار دمشق بما فيها وما كان منها في شخص زوجة القاتل سبباً كافياً ليتفجر الغضب داخلي لحرق الذاكرة بيني وبينه كلياً، لكن كان عزائي النفسي أني صرت خارج معادلة النفاق ربما، مقتنعة أن العيش هناك يكلفهم الكذب في مواجهة البقاء، أو أن الآخرين هناك آمنو بمن كسرنا وقتلنا باعتباره خيارهم الوحيد ولا مفر من ذلك، فكما يقولون “الايد اللي ما بتقدر عليها بوسها وادعي عليها بالكسر” ولا نعرف من سيكسر يد المتجبر إن عاثت وتمددت بعد كل هذا الخوف أكثر!.

تحت كلمة البلاد التي نرددها نحن في الخارج، والتي نستطيع تحويرها لتصير كل البلاد، ندرك أن الحدود ليست هي الفاصل بيننا وبين البقاء، بل هي الرغبة بأن نكون ما نؤمن به، أي ما ننطقه جهراً ويعتبره الظالمون كفراً، وأن السكين التي توضع على رقابنا ليست لسوء ما ننطق به، بل لجبروت من نحاكمه بأقوالنا وكلماتنا.

في سجون الأسد اليوم آلاف المعتقلين الذين بقيت أسماؤهم متبوعة بوسم “مفقود حتى أجل آخر” بعد الكثير من الأسماء التي أُتبعت بمسمى شهيد، وفي سجون هذا العالم مفقودون حتى دون إشعار آخر بوجودهم، مثلنا نحن الغرباء في البلاد وخارجها وفي الأرض التي لا نهاية لكل هذا الظلم فيها.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل