لم أكن أتوقع ولو للحظة أن أطالع اليوم خبراً صباحياً بهذه القسوة، كما لم أتوقع أن أسمع بمثل هذا الخبر الشنيع عن تجريد جمال خاشقجي من حقه في الحياة بهذه الطريقة السادية، وهو الذي أمضى الكثير من حياته وهو يلمع صورة حكام المملكة ويروج لحكمهم “الرشيد” منذ ما يقرب من قرن من الزمان أمضاه الملك الأب وأبنائه المتعاقبون، ممن يعرفون القراءة وممن لايعرفون في تقديم فروض الولاء والطاعة لأسياد متعددين تبعاً لتغير الأزمان واختلاف عهود القوة والضعف لهذه الامبراطورية أو تلك بدءاً من حكومة صاحبة الجلالة التي كانت ترسل لعبد العزيز الأب معاشاً شهرياً يعينه على قضاء حوائجه وشظف العيش في صحراء مترامية الأطراف وحلفائها الغربيين، ومروراً وانتهاءً بسطوة مطلقة وأحادية للولايات المتحدة الأمريكية على كامل ما سمي بالخليج العربي وشبه الجزيرة العربية.
لست من مريدي الرجل الفقيد، ولا ممن يروقني فكره واعتقاده وولاءه، بل القضية في استمرار نهج قذر من القسوة والإجرام لا يتوانى عن ارتكاب أي موبقة أو جريمة وبحق أي كان وبصرف النظر عن تاريخه وقربه وبعده وأحقية الآراء والمواقف التي يدلي بها في هذا المنبر أو ذاك، ودون إقامة أي وزن لأي قيمة قانونية أو شرعية أو أخلاقية ومدى تأثر سمعة الحكم “الرشيد” وخدش حيائه و مستواه الأخلاقي.
العدالة التركية والقانون التركي على المحك في هذه القضية، والقدرة على تحقيق العدالة وبصرف النظر عن المجرم والضحية مهم جداً لإثبات أن أردوغان مختلف عن البقية، و لإثبات أن حكم القانون هو الأقوى في هذه الدولة التي تشق طريقها نحو أن تكون أمة عظيمة تملك قرارها ومصيرها وتخطو نحو تحقيق ذلك بخطوات واثقة وبحلم وصبر، وإن وضعت الصعاب في طريقها وتآمر الغرب والشرق على منعها من أن تعود رقماً صعباً ومؤثراً في الإقليم والعالم، وإظهار حقيقة ما جرى لجمال خاشقجي وبثقة ودون مواربة أو تسييس، وهو المنحدر من أصول تركية غاية في الأهمية لمنع المصطادين في الماء العكر من تأكيد التواطؤ بين الأجهزة الاستخبارية السعودية والتركية لتنفيذ هذه العملية البائسة والشنيعة.
لا شك أن محمد بن سلمان ذلك الهائج الذي يتخبط يمنة ويسرة ويخطف ويعتقل ويقتل ويعقد الصفقات والتفاهمات يحظى بدعم كبير من مشغليه الأمريكيين وتوابعهم، ولعل هذه الجريمة هي بالون اختبار وإحراج مقصود لتركيا ومدى قدرتها على الحسم بتنفيذ قوانينها وعدالتها وإن كلفها ذلك مشاكل وصعوبات في علاقاتها الدبلوماسية مع دولة إقليمية بحجم السعودية والخاضعة كلياً لارادة وحماية الولايات المتحدة الأمريكية.
الرجل التاريخي ليس هو بالضرورة فقط من أحدث تغييرات جوهرية إيجابية كانت أو سلبية في تاريخ أي دولة، بل كذلك هو ذلك الحاكم الذي أنيط به من حلفائه ومشغلوه إجراء تغييرات شاملة في بنية مجتمع بلاده من الناحية الأخلاقية والاجتماعية والسياسية ودعمه والتغاضي عن أعماله وجرائمه لتنفيذ مهمة عظيمة أوكلت إليه بإحداث ثورة عمودية وأفقية في المجتمع السعودي، وتحويل هذا المجتمع بالتدريج من مجتمع محافظ في أغلبه إلى مجتمع مختلف تماماً يحاكي العلمانية وتسود فيه الأفكار والقيم الليبرالية، وإن قدمت إلى الشعب والعالم بمسميات زائفة وكاذبة من قبيل الوسطية والاعتدال.
والرجل التاريخي بهذا المعنى ينطبق تماماً على الجاهل محمد بن سلمان والذي يتصرف كملك أحمق من ملوك أوربا في القرون الوسطى، وسادية وعجرفة غير مسبوقة، وبهذا ينضم ويحصل على عضوية في نادي الدكتاتوريين والمجرمين العرب.
الوضع مزري جداً، وتغييره يحتاج إلى جهد كبير من الشعب السعودي من نخبه الثقافية والدينية والعشائرية لوضع حد لهذا المعتوه الذي نال من الكثيرين من المفكرين ورجال الدين، ولهذه الجوقة الجاهلة من آبائه التي تحكمت في مقدرات واحدة من كبريات الدول العربية والاسلامية، وحرفتها عن دورها الريادي الذي فرضه كونها قبلة لمسلمي العالم وبحكم موقعها وثرواتها الكبيرة.
وفي سياق قضية اغتيال خاشقجي لا يجب أن تمر هذه الجريمة دون عقاب، وعلى تركيا و منظومتها القانونية نشر كافة المعلومات والتحقيقات التي تخص هذه الجريمة لتنأى بنفسها عن شبهة التواطؤ والتنسيق مع القتلة، والتي نفذت بطريقة شنيعة تدل على إجرام متأصل وثقافة بدائية وعلى مستوى أخلاقي متردي في تغييب أي فكر أو رأي لمجرد الاختلاف وتوضيح الحقائق والخوف من أي شيء تراه مزعجاً حتى لو كان قلماً.
عذراً التعليقات مغلقة