لو صار كوهين رئيساً

عمر قدور6 أكتوبر 2018آخر تحديث :
لو صار كوهين رئيساً

“أتوجه إليك بخالص المحبة، أرجو أن يعمّ السلام في بيتك وفي بلدك، أطلب منك الرحمة، أطلق سراح إيلي، أعدْ رفاته. حين توفيت حماتي تأسفت لأنها لم ترَ قبر ابنها، ساعدْنا وأعطنا القبر، سنشعر بالراحة أنا وأولادي، وحتى هو سيشعر أنه قُبر في أرضه”. بهذه العبارات خاطبت أرملة الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين بشار الأسد، يوم الأربعاء الماضي، ولنا أن نقف محتارين إزاء لغة الاستعطاف والإنسانية التي استخدمتها، فهي تبدو كأنها لا تعرف من تخاطب، ولا تعرف أن من تستعطفه إنسانياً حرم عشرات آلاف عائلات المعتقلين من تسلّم جثث الأبناء أو الأزواج الذين قتلهم تحت التعذيب. بالطبع قد يستجيب بشار لتوسل تلك الأرملة، إذا كان يعرف مكان الجثة واقتضت مصالحه تسليمها، وهذه ستكون زيادة في رصيد استهانته بعذابات السوريين الذين لن يحصلوا على معاملة مماثلة.

كانت المخابرات الإسرائيلية، في عملية لم يُكشف عن تفاصيلها، قد نجحت في استرجاع ساعة يد كوهين، وسلّمها نتنياهو لأرملته في احتفال خاص. ولو عرفت المخابرات مكان رفاته لما اضطرت أرملته لاستخدام لغة التوسل، فشخصية كوهين تحظى باحترام إسرائيلي للدور الذي لعبه في سوريا قبل انكشافه وإعدامه على وجه السرعة، وأيضاً للدور الذي لعبه من قبل في مصر قبل انكشاف الخلية التي يعمل فيها.

في المخيال الشعبي السوري، لدى الذين عاصروا تلك الفترة، ثمة صورة مركّبة لكوهين الذي اتخذ لنفسه اسم كامل أمين ثابت. على سبيل المثال كان دارجاً لدى أولئك استخدام اسم كوهين لوصف شخص ما بالخيانة، وفي الوقت نفسه يروون كيف أن رئيس المحكمة العسكرية التي قضت بإعدام كوهين قد وصفه بالخائن، فردّ عليه الأخير بأنه ليس خائناً لأنه خدم بإخلاص وطنه “إسرائيل”، وأنهم هم الخونة الذين تعاملوا معه وسهّلوا له الحصول على المعلومات التي أرسلها لبلده.

وكما نعلم لم تكن محاكمة كوهين السريعة، ومن ثم إعدامه سريعاً، بغرض التخلص من إحراج التدخلات الدولية للإفراج عنه أو تخفيف الحكم. التأويل الشعبي لتلك السرعة يتهم المسؤولين الكبار آنذاك بلمّ آثار الفضيحة التي تطالهم جميعاً، ومن المؤكد أن أجهزة المخابرات لعبت دوراً في الترويج لوجود معرفة شخصية مع الرئيس “الشكلي” آنذاك أمين الحافظ منذ كان يعمل ملحقاً عسكرياً في الأرجنتين، رغم أن تاريخ وصول كوهين إلى الأرجنتين يعقب انتهاء مهمة الحافظ فيها.

الضابط الوحيد الذي حُكم عليه بالسجن لخمس سنوات بتهمة صداقته لكوهين هو ضابط صغير، وليس من المصادفة وجود قرابة بينه وبين وزير الدفاع السابق على انقلاب البعث. بمعنى أن تهمة تسهيل عمل كوهين أُلصقت بكبش فداء لا يملك الصلاحيات ولا المعلومات التي سرّبها الجاسوس لبلده، وأيضاً بالرئيس الشكلي الذي سيقوم أصحاب السلطة الفعلية بالانقلاب عليه بعد عشرة أشهر من إعدام كوهين.

حسبما تشير الروايات كان كوهين قد وصل إلى وضعية غير رسمية هي كونه مستشاراً لوزير الدفاع، ويُحكى أنه رفض عرضاً لتسلّم منصب نائب وزير الدفاع بشكل رسمي. وفي الروايات الشعبية كانت حظوته أكبر من تسلم ذلك المنصب، فضلاً عن أن المهمة الموكلة إليه لم تكن تقتضي القبول به. وإذا استأنفنا ذلك السياق على غير ما آل إليه، أي لو قبل “كامل أمين ثابت” بمنصب عسكري ولم تتدخل المصادفات لكشفه، لكنا بعد عامين أمام مفارقة كبرى عندما ستقوم إسرائيل باحتلال الضفة والقطاع وسيناء والجولان في حرب الأيام الستة، بينما هو في المنصب الذي يقتضي التصدي لذلك العدوان.

ما يدعو إلى الدهشة إعلان تل أبيب أن المعلومات التي قدّمها كوهين كانت مفيدة جداً في حرب الأيام الستة، أي أن القيادة السورية آنذاك لم تغيّر في خططها الدفاعية، ولا في الأماكن الرئيسية لتمركز قواتها وعتادها. ورغم ما يُشاع عن دور المخابرات المصرية في كشف عمالة كوهين فهي فشلت على مقلبها في كشف الجاسوس باروخ نادل، والأخير يُعزى إليه فضل قصف الطائرات المصرية وهي جاثمة في مطاراتها، بسبب المعلومات التي أرسلها لدولته وأيضاً لإقامته ليلة العدوان سهرة سُكْر طويلة لقادة ذلك السلاح. ولننسَ ولو مؤقتاً مسلسل رأفت الهجّان!

بحسب ما هو متداول أيضاً، كانت المهمة الأساسية من إرسال كوهين إلى سوريا هي تعقّب ألويس برونر الذي هرب إليها مع سقوط النازية. ألويس هذا كان مساعداً لأدولف إيخمان رئيس المخابرات الألمانية “غيستابو” المتهم بالإشراف على معسكرات الاعتقال والإبادة النازيتين، وتختلف الروايات حول تاريخ وفاته، إلا أنها تتفق على وفاته في هذه الألفية وهو شبه سجين في دمشق خشية انفضاح مكانه. ويُنسب لألويس مساعدة حافظ الأسد “الذي أصبح مستشاراً أمنياً سرياً له” في تنظيم أجهزة المخابرات السورية، وفي إدخال وسائل التعذيب النازية إليها، وكما نعلم كشفت تقارير دولية عديدة من أهمها تقرير لمنظمة العفو الدولية وجود محارق لجثث المعتقلين أثناء الثورة على النمط النازي نفسه. إلا أن مهمة كوهين تطورت بعد نجاحه الساحق في التقرب إلى مفاصل السلطة، وبحسب ما يروي الذين عاصروا تلك الفترة لم يكن هناك عائق أمام تقدّم كوهين، لولا انكشافه الذي يُحسب مرة للمخابرات المصرية، ومرة للسفارة الهندية التي كان يقيم بالقرب منها وشكت من وجود جهاز إرسال لاسلكي قريب يشوّش اتصالاتها، بل لا يندر بين معاصري تلك المرحلة من يتنبأ بأن الطريق كانت ممهدة أمام كوهين كي يصبح رئيس سوريا لولا المصادفة التي أودت به.

الحق أنه ثمة إغراء في استئناف ذلك المخيال، وإن قطعه واقع إعدام كوهين. إذ لو بقي الرجل وقبل مثلاً أن يكون نائباً لوزير الدفاع، أي لو كان في هذا المنصب أيام حرب حزيران، لما كان متوقعاً منه أن ينصح وزيره بالانسحاب من أراضٍ شاسعة قبل وصول القوات الإسرائيلية “كما فعل حافظ الأسد”، لأن مثل هذه النصيحة قد تجعله محلّ شك كبير يفسد طموحاته ومهمته. ولأن الرجل يتمتع بالدهاء، فضلاً عن وقوف جهاز مخابرات قوي وراءه، فلا يُستبعد منه المزايدة على وزير الدفاع الذي أمر بالانسحاب رغم سروره بقراره، أو ربما كان سينظر إليه كمنافس أحمق في إرضاء دولته إسرائيل.

في تقدمه نحو الرئاسة كان كوهين سيعثر على ألويس برونر ويسلّمه إلى إحدى الدول الغربية التي تطالب به، لتسلّمه بدورها إلى إسرائيل، إلا أنه بالتأكيد لن يجعل منه مستشاراً لتنظيم أجهزة المخابرات. على الأرجح عندما سيصبح رئيساً لن يسعى كوهين لبناء أجهزة مخابرات قوية، فقوتها إذا كانت موجّهة ضد إسرائيل قد تصل إلى اكتشافه، وإذا كانت قسوتها موجّهة إلى السوريين فسوف تسيء إلى مهمته التي تقتضي كسب قدر أكبر من قناعة السوريين به.

كمخلص لدولته الأم إسرائيل، لن يحوّل الرئيس كوهين سوريا إلى واحة من الازدهار والديموقراطية، لكنه بلا عائلة كبرى ومصاهرات يستولي أفرادها على مفاصل السلطة، وإذا اضطر للزواج استكمالاً لدوره فلن يكون متحمساً لتوريث أحد من أبنائه الذين أنجبهم بحكم الضرورة. ولأن مهمته ستمنعه من أن يكون رئيساً صالحاً فقد يواجه تمرداً هنا أو هناك، لكن مهمته أيضاً ستردعه عن سحق مدن كاملة وإبادتها، مثلما سيكون قد انضم أصلاً بحماس إلى منظمة منع انتشار الأسلحة الكيماوية، ولن يكون لديه مخزون منها كي يقصف الثائرين عليه. فضلاً عن أن اسمه المزعوم “كامل أمين ثابت” لن يساعده هو وأعوانه على اجتراح شعارات فيها سجع من نوع “الأسد إلى الأبد”، أو “الأسد أو نحرق البلد”.

ربما، لو تركنا المخيال على سجيته، سنحظى بالكثير من المفارقات التي تفتتحها جملة الشرط “لو صار كوهين رئيساً”، وقد لا تقتصر على التناقض بين الضغينة التي يحملها في داخله كعدو إزاء مواطنيه المزعومين والحذر الذي يتطلبه وضعه كجاسوس صار رئيساً. إلا أن تلك المفارقات، رغم كونها من صنع الخيال، قد لا تتفوق على المفارقة التي تصنعها عبارات أرملة كوهين الإنسانية الموجّهة إلى بشار الأسد. وإذا غادرنا لعبة الخيال، وغادرت الأرملة اللغة التي يقتضيها وضعها كصاحبة حاجة، فمن المؤكد أن ملايين السوريين مستعدون لإعطائها رفاةً بديلة لو استطاعوا، وإذا لم تجد هي هذه المقايضة مجحفة في حقها.

المصدر المدن
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل