“قوقعة” مصطفى خليفة

فريق التحرير26 سبتمبر 2018آخر تحديث :

نزار غالب فليحان

قرأتُ بداية العام 2000 كتاب “تدمر الشاهد والمشهود” وكان عبارة عن نص توثيقي ليوميات تعذيب المعتقلين في سجن تدمر كتبه “محمد سليم حماد” الشاب الأردني الذي قصد دمشق لدراسة الهندسة بعد أن كان قد بدأ يتردد على مساجد الأردن ليكلف بمهمة اتصال مع جماعة الإخوان المسلمين في سوريا ناقلاً رسائل من قيادتها في الأردن.

أتبعتها بقراءة كتاب “خمس دقائق و حسب – تسع سنوات في سجون سورية ” للمعتقلة السورية “هبة دباغ” كنص آخر يوثق يوميات التعذيب في معتقلات النساء في سوريا لذات الفترة التي كتب فيها “محمد سليم حماد” وثيقته (ثمانينات القرن الماضي).

بعد مرور ثمان سنوات على قراءَتَيَّ السابقتين، صدرت “القوقعة” لـ”مصطفى خليفة” وهي نص روائي هذه المرة لمعتقل قضى في سجن تدمر ثلاثة عشر عاماً.

قرأت عن “القوقعة” كثيراً قبل أن أقرأها، لكنني ترددت في قرائتها بدايةً، ليس لأنني لا أتحمس كثيراً للنصوص التي تكاد تحترق من كثرة الضوء الذي يسلط عليها فحسب، بل لأن “محمد سليم حماد” كتب وثيقته في ذات المعتقل “سجن تدمر” و في نفس فترة الاعتقال، ولم أكن أرغب في قراءة يوميات ذاك السجن الرهيب كنص روائي ربما يلوي عنق حدث هنا أو يبالغ في تجسيد مشهد ما هناك، كما أن تفاصيل المعتقل ورائحة العفن والدم كانت قد ترسخت في مخيلتي مع قراءة “تدمر الشاهد و المشهود – محمد سليم حماد” ولم أكن أرغب في تعريضها -أي مخيلتي- لرؤية ثانية قد تشوهها أو تفتح مجالاً للمقارنة ورصد الاختلافات، سيما وأن جنساً أدبياً مهما بلغت عبقرية مبدعه لن يتمكن من رصد حرقة الاعتقال وألم التعذيب وجريمة القتل، لكن الفضول كان أقوى، وكذلك رغبتي في الاطلاع على منجز روائي آخر يحكي عذابات الاعتقال، فكان أن قرأتها.

من ثقب في جدار زنزانته الذي التصق به ثلاثة عشر عاماً، استطاع بطل القوقعة (بطل بالطبع كاصطلاح روائي لكنه في الحقيقة ضحية لا تملك حتى تقرير ساعة تصفيتها) أن يرى حفلات التعذيب والقتل والإعدام، ومن هذا الثقب انسربت مشاهد روايته إلى قوقعته التي فرضها عليه من جهة النظام جرَّاء تطاوله على قائده في إحدى الجلسات الباريسية مع (أصدقاء) سوريين أثناء دراسته الإخراج السينمائي هناك، ومن جهة أخرى العزلة التي فرضها عليه المعتقلون الإسلاميون على خلفية إلحاده ومسيحيته التي لم تشفع له – و هنا المفارقة – اتهامه شأنه شأنهم (الإسلاميين) بالانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين.

اعتمد “مصطفى خليفة” على ذاكرته في حفظ وتسجيل مشاهد روايته على مدى أعوام اعتقاله الثلاثة عشر، الذاكرة التي لم تخنه أبداً في تصوير كل العفن والبطش والتفنن في قهر الإنسان، سجانون يتقيؤون حقدهم وعبوديتهم ومعتقلون يتقيؤون عذابهم وقرفهم، سجانون يمارسون سلطة قادتهم بكل إتقانٍ وإخلاصٍ (يجبرون المعتقل على شرب ماء الصرف الصحي أو ابتلاع فأر) ومعتقلون عُذِّبوا حَدَّ تمنيهم الموت كل لحظة.

تنتهي الرواية بالإفراج عن بعض المعتقلين وبينهم “مصطفى خليفة” بمناسبة تجديد البيعة لقائد الوطن، فيخرج الكاتب من قوقعة المعتقَل التي كان ثقب الجدار فبها نافذته الوحيدة إلى الخارج وإن كان هذا الخارج مسرح تعذيب وقتل، إلى قوقعة أكبر راح الكاتب يسعى إلى سدّ كل ثقوبها، لا يريد أن يرى شيئاً إلا أثر سِنِيِّ الاعتقال بثوراً على روحه ونُدباً في قلبه ودماملَ فوق جلده وسواداً يكتنف غده.

لم تُؤثر قراءتي “القوقعة” سلباً على تخيلي للمشهد المأساة الذي صوره “محمد سليم حماد”، بل أتت مكملة له معززة لسواده ووحشيته، حين ربط “مصطفى خليفة” بين يوميات الاعتقال وحفلات التعذيب كمشاهد منفصلة بنسيج روائي أبعد عن النص فعل الإخبار والتوثيق البحت باتجاه البناء الدرامي الذي أعطى للنص بعداً أدبياً بعيداً كل البعد عن الانفعال والتقرير نحو التجسيد السينمائي الذي حملته لغة تصويرية سهلة عفوية وغير مبتذلة حافظت على الغاية الأساسية للنص في وصف الحدث ونأت به عن مجرد توثيقه.

خرج “مصطفى خليفة” من المعتقل، لكن المعتقل لم يخرج منه، ولن.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل