سليمان نحيلي – حرية برس
ربما لا تكفي مقالة واحدة لتقديم قراءة نقدية أو حتى انطباعية لرواية حب تحت الأنقاض للسوري إبراهيم الزيدي، ولذلك فإنّ منتهى ما أقدمه في هذه الزاوية هو محاولة جادّة لتسليط الضّوء على جوانب الرّواية بشكلٍ عام من حيث الحدث والسّرد واللغة والمكان والأبطال والصراع في ومآلاته قد تفيد القارئ، ولا أدّعي أنّني وُفقت للإحاطة بكل مناحي هذا البناء الروائي الهام.
والرواية باختصار عبارة عن قصة عائلة سورية، هاجرت من منطقة تل أبيض إلى محافظة الرّقة، من الرّيف بمعنى ما إلى المدينة، تدور أحداث الرّواية على لسان البطل الرّاوي، يعرضُ فيها من خلال قصة حبّ جارفة الواقع السّوري، ويقوم بالنقد والتحليل لكافة مفاسد المجتمع من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والدّينية والسّياسية ويكشف ممارسات السلطة الحاكمة وقمعها للمثقفين المعارضين وتغييبهم في السجون، وتنال البيئة في الرقة نصيباً وافرا من هذا التحليل كمعادل كافٍ لإظهار صورة المجتمع السوري بشكل عام من خلال الرقة، بحيث نتلمّس الأسباب والمتقدمات التي أدّت إلى اندلاع الثورة السورية عام 2011، ويعرض بداياتها وتطوراتها التي انتهت بالبطل إلى ترك الوطن والاضطرار إلى اللجوء مع عائلته إلى لبنان، كمئات الآلاف من السوريين والثورة ما تزال في أوجها عندما تموت حبيبته بمرض خبيث.
وإذا عدنا إلى هذه الرّواية، فمنذ العَتَبةِ السّرديّة الأولى، يلقي الكاتب القبض على اهتمامنا وانتباهنا بالكلِّيَّة، ويضعنا في حالة انجذاب واستنفار كاملين حتّى الانتهاء من قراءتها دفعة واحدة.
استهلّ الكاتب روايته بهذه العبارة (مازلتُ أذكر ذلك الطالب الذي عشق معلمته فرسمها، وحين سألتهُ ما جدوى ذلك؟ قال: لم أجد طريقةً أفضل لامتلاكك، فالأحلام المؤجلة تُميتُ القلب).
هذه المقدمة التي تضعنا في مواجهة مباشرة مع الحبّ والمعاناة والحلم والذكرى والتأزّم والفلسفة، وكوامنِ النفس البشرية وإرهاصاتها من الإقبال والإحجام والحرمان والكبت وأعراف المجتمع والانكسار، يبدو مما ذكرته أنّ الذكرى كانت اللَّبِنة الأساسية التي اعتمدها في السرد الروائي ،فكانت الذكرى بمثابة الماكينة التي حركت عجلة تنامي أحداث الرواية، فالذكريات تشعل طاقة التذكر، إنها تقوم على وجودٍ حاضرٍ للشخص المتكلم في زمن السّردِ محاولاً استعادة الماضي عبر التّذكّر، الأمر الذي يفتح المجال واسعاً للاسترسال في الحكي الرّوائي. وما دعّم ذلك هو اعتماد الكاتب صيغة ضمير المتكلم في السّرد، بحيث لا تنفصل شخصية البطل الرّاوي عن شخصية الكاتب ما يجعل الرّواية تبدو أكثرَ صدقاً وواقعيةً وأبعدَ أثراً في ذهن ومشاعر القارئ.
ولا أُجانبُ الصّوابَ فيما لو قلتُ أنّ السّرديّة العالية، سواءٌ كانت على مستوى الحكي الروائي من خلال المنولوجات الداخلية والوصف أو على مستوى الحوار، كانت مبنيةً على لغة شاعرية عالية وفذّة، تكتمن على الكثير من الصور الشعرية والإيماضات المدهشة والمجازات والانزياحات والمشاهد، وربما لا يُستغربُ ذلك من شاعر له أكثر من مجموعتين شعريتين.
إن مَرَاحَ اللغة عند الزّيديّ مُحكمٌ، ثرٌّ، منسابٌ، الأمر الذي يجعل من اللغة في هذه الرواية أحدَ أبطالها.
وعلى صعيد أشخاص الرواية وأبطالها، فمن الطبيعي في هذه الرواية أن يكون الرّاوي هو البطل، لكنه ليس المطلق، إذ تتساوقُ في هذه الرواية شخصيات ثلاثة أبطالٍ معه، وهم حكيم صديقه وغالية أخت الرّاوي، والمحبوبة مديرة البنك الناجحة. تبدو شخصيات الأبطال متشابهة في صفاتها وأبعادها بالرغم من التفاوت الطبقي بينهم (المحبوبة وحكيم من طبقةٍ غنيةٍ جداً) فيما (البطل الراوي وأخته من الطبقة الفقيرة المسحوقة).
فهي جميعها تنتمي لعالم المبادئ والأخلاق والإنسانية، والتي تتعامل مع العالم والأشياء والأحداث من خلال المفهوم القيمي الايجابي. لذلك فهي تبدو متمردة على الواقع غير متصالحة معه، تعاني وترفض أشكال القهر الاجتماعي والسياسي في الواقع السوري والذي تمارسه السلطة الحاكمة، تعرض اثنان منهما للاعتقال بسبب مواقفهما المعارضة لتوجهات السلطة الحاكمة (البطل الرّاوي وحكيم الذي انتهت الرواية ومازال معتقلاً) وأجزم أن الكاتب لو نشر روايته في سورية قبل الثورة لكان الآن في غياهب السجون أو في عِدادِ الأموات .وفي هذا السّياق يقدّم لنا الكاتب جواباً لسؤال سرعان ما يتبادر إلى ذهن القارئ عن سبب انتهاء الأمر بالصديق حكيم إلى السجن، هل تخلّص منه الراوي لكونه منافساً له على حبّ المحبوبة أم أن هناك سبباً آخر؟
لكن معرفة شخصية حكيم من خلال أحداث الرواية، تدفعنا للجزم بأن الراوي بريءٌ من هذه التهمة، وأنّ أمر اعتقاله وبالتالي تغييبه عن مسرح أحداث الرّواية كان أمراً حتميّاً بسبب آرائه ومواقفه ونشاطاته المعارضة للنظام الحاكم في سورية.
ينتمي البطل الراوي لأسرة فقيرة تعمل بالزراعة ،قدّمت أكبرَ أبنائها شهيداً في حربٍ ،كما يقول الكاتب (رفع السّاسةُ شعاراً لها على أنها تحريرية ليحصد أصحاب المناصب النفوذَ ومصادرة ثروات الوطن وليجني البسطاء الألم).
لقد فضحَ الكاتب من خلال هذه الرواية طبيعة النظام الأمني المستبد، والفساد المستشري على الصُّعُدِ السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية في سورية حتى انطلاق الثورة السورية، حيث يقول (إنّ أسلوب اعتلاء المناصب في سورية يحتاج الكثير من الولاء والقليل من الكرامة).
وفي نطاق المكان الروائي يبدو المكان كرقعة جغرافية ممتداً واسعاً، حيث تدور أحداث الرواية ما بين منطقة تل أبيض ومدينة الرقة ومدينة حلب ودمشق وبيروت في لبنان، أما عن علاقة أشخاص الرواية أبطالها بالمكان، فتبدو متينة بالمطلق، بدءاً من تل أبيض واستذكار مرابع الصبا ومراح اللعب مع أصدقاء الطفولة والحقول، ثم مغادرة البطل مع أسرته إلى الرقة وذكر أسماء شوارع وأماكن وآثار منتشرة في مدينة الرقة، وانتهاءً بمغادرة الرقة واللجوء إلى لبنان بسبب تداعيات الحرب على شعب خرج يطالب بحريته وكرامته المسلوبتين. لكن أكثر ما يجذب ويحزن ويدلّل على عمق ومتانة العلاقة بالمكان هو مشهد نزوح أهالي الرقة الذي يصوّره كأنه هجرةٌ للرقة كحيّزٍ جغرافي كامل: (إنها هجرة مدينةٍ بكل ما فيها من بشرٍ وحجرٍ وأرواحٍ وحاراتٍ وأشجارٍ ونهرٍ، وهذا ما يحمله المنفيّ قسراً عن وطنه).
عذراً التعليقات مغلقة