منهج السجون في دين الطغاة – عبثُ الزنازين

عمار حسين الحاج20 سبتمبر 2018آخر تحديث :
عمار حسين الحاج

أدركُ أني لم أعد أستطيع إدراكَ المصطلحاتُ المُستحدثة، وما تعنيهِ كلّ كلمةٍ بالضبط، إن كانت مبنيةً على مقياسٍ دبلوماسيٍّ أو أدبيٍّ، أو تشريعي، ولا كُنهَ التصرف، أو ردة الفعل، على فعلٍ قام به أحدهم مع أحدهم أمامي، أو معي.

ما أدركه جيداً، أنني أروضُ ذاتي على الاختباءِ من طائشاتِ اللغة في نشرة الاخبار، أو في رسالةٍ غامضةٍ قد تصلني من حبيبٍ، أو من صائد جوائزٍ ليورطني أمامَ مرآتي.

لكنني فشلت في الاختباءِ هنا في العتمة، عن كل ما يحدث هناك، هناك حيث السماءُ والأشجار، والعصافير، والصيَّاد الذي يصطادها، ليستمتع بموتها لا أكثر، فتصيبني الشفقة على كل شيءٍ في الكون، وكأنني انتقلت انتقالاً غريباً وعجيباً، عبر هذا الاعتقال وأدواته الوحشية من عالمٍ أدنى إلى عالمٍ نقيٍّ هادئ ولطيف، تحرَّرتُ فيه من نفسي الآثمة.

وبين هذا وذاك يشتدُّ الحوار بيني وبيني، وأنا بيننا أقف على المنبر وأتلو قصيدة عن الحبِّ والحرية، تنتهي برقصةٍ “زوربوية”، يتلقفني الثمل بالنغماتِ، بعيداً عن إيجاد حلٍّ وسط بيني وبيني، أرفع قبضتي إلى الأعلى، أُمسكُ مشجبَ الجلَّاد، وأُنزلُ ستارة العتمة على كلِّ شيءٍ، وأطرد الجمهور الذي لم يكن يبالي بقصيدتي، وإنما شغفهُ الأكبر يتمركزُ في نقطة متعة مشاهدة العذاب، وصنع الأيقوناتِ، الصالحة للزينة النخبوية المُغبرَّة.

كم موتي، أو سجني مهمٌ لأحدهم.

كم حبيبتي تمقتني، وكم خيالها يزدريني ساعةَ التَّنفسِ في باحة السجن البائسِ، مع كلِّ هذه الوجوه الحالمة بلمس إسفلت الطريق الساخنِ، الموازي للسياج من الخارج، والخارجِ إلى الحرية.

في الأمس لملمتُ كلَّ اضطرابي، وغبار أحلامي عن شبكِ الزنزانة الناعم، الذي لا يسمح إلى بدخول الهواءِ ورائحة الذُلِّ، ورؤية سماءٍ مسمومةٍ بالدعاءِ ورائحة البارود، وتسمح بخروجِ أنفاسنا بلا حقائب، ولا أختامٍ على راحة الأيدي، ولا أوراق إخلاء سبيلٍ، رسمنا عليها خارطة المنزل، والحديقة، والقبلة الأولى.

وبضربةٍ واحدةٍ من قبضتي، الباهتةِ في الظلِّ، حطَّمتُ مرآتي، وتساءلتُ سريعاً، ما الفائدة؟!

وكانت النتائج، تشوُّهٌ في قبضة يدي، وقليلٌ من الدماء، والكثير الكثير من الفشل، مع التباسُ عينيَّ بما قالتهُ يوماً حبيبتي بأنني أشبهُ والدها في حنيني، وقَهْقَهْتُ يومها ولم تسمعني، هذا بالإضافة إلى اضطرابٍ طارئٍ في رئة الوسادة التي نالت من ركبتي، المَ نقطة ارتكازي وأنا أهجم على ملامحي الغريبة بالقبضة العنيفة، في مرآتي الصغيرة والحانقة بسبب تكرار ذات الوجه لسنوات.

وأيضاً، مع التباس يديَّ أمامَ المحقق، بمغامرةِ الشرحِ كَذِباً، هرباً من تهمةٍ جاهزةٍ.

وما الفائدة من كل ذلك؟!

ما الفائدة، إن كانَ كلُّ شيءٍ سيؤدي حتماً إلى اللاشيء، نحن مصيرنا العدم، فلماذا نستعجل الدخول في عدمٍ نصنعهُ بأيدينا؟

أيعجبكُ شِعري يا حبيبتي؟!

لا مناصَ من إجابةِ النعم، جميل، سَلِمَ يراعك، دام قلمك…

كم أمقتُ تلك الإجابة الجافة والبعيدة عن واقع لغةِ القلب، الذي أبدع في معاناتهِ في إنتاج ما يغير ملامح الوجه لحظياً، مع زيادةٍ في التعرُّقِ، وفي إفراز الغدة الدمعية، إمعاناً في أدلجة اللغة برومنسية التشكيل، وإيقاع علامات الترقيمِ التي تتزامن مع حرارةٍ في بطنِ الكاتبِ، ووجه المتلقي . ماذا أفعل الآن بوجهي التي باتت ملامحهُ تُشبهُ راحة كَفِّ المحقق؟!.

ومِنْ على صهوة التوترِ الحاصلِ في جُزَئياتِ دمي، والتي تُوَلِّدُ غضباً بركانياً، سأصرخُ:

أحبكَ أيها المحققُ الغاضبُ، أحبكَ وأنتَ تغضبُ مني وأمامي، رغم يقينكَ بأني مُوَقِّعٌ على اعترافاتي المزورة من قبل أن أولد.

تستحق /أوسكار/ على قياس غباء سيدك..

أحبكِ، تلك المرأة التي نسجت تلابيبَ الحكاية بسرعةٍ، وحلمتُ بتورُّدِ خدَّيها، ولكنها تحبُّ أن تتمسكَ بأشياءَ تُميِّزها وتخاف أن تخسرَ نقاط العلّامِ في غضبها وتوترها وغنائها الحر،  فتُسرعُ باختيارِ الرحيلِ، والاختباء مني خلف مراقبتها لكلماتي .

ماذا يزعجني الآن؟!

كثيرٌ من الاسئلة مثل : كم أحبك؟!..هل أحبك؟!..يا أنا؟!..،،،،،،،

لأنني أشعرُ بأنَّ الاسئلةَ رجلٌ تراهُ، ولا تستطيع تحديد اتجاههِ إن كانَ قادماً، أو ذاهباً..

وأكرهُ تقبيلَ الأرض، لأنه يُصيبني بزكام الحنين..

أكرهُ التضحية، لأنها عدوى الحروف المريضةِ بالعطاء..

أكرهُ نفسي، لأنني أخسرُ حبيبتي كُلَّما داهمَ حُبَّنا مفهومٌ سياسيٌّ جديد، لتعريف الوطن، والحضن الباعثِ على دفءِ العَلَم،  فلا يبقى من ينعتني بالشاعر المراهقِ أو الولد السياسي المغامر، استفزازا لغرابتي..

أكرهُ يدي، لأنها لم تلمسْ بعدُ بشرة حبيبتي المشاكسة، ولم ترفع علمَ الثورةِ منذُ سنوات..

ولأنني كسرتُ مرآتي، لم يبق ما أبصقُ عليهِ صباحاً، تحيةً للعصافيرِ التي لم أعُد أراها أبداً..

في السجن 2016

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل