هل خسرت روسيا الحرب في سوريا؟

برهان غليون17 سبتمبر 2018آخر تحديث :
هل خسرت روسيا الحرب في سوريا؟

خرج مئات آلاف المدنيين السوريين يوم الجمعة (14 سبتمبر/ أيلول 2018) في جمعة أطلقوا عليها اسم جمعة “لا بديل عن إسقاط النظام”، في مظاهرات حاشدة، رفعوا فيها أعلام الثورة الخضراء في أكثر من مائتَيْ نقطةِ تظاهُرٍ في مدن إدلب، وسراقب، وأريحا، ومعرّة النعمان، وجسر الشغور، وبلدات كفر تخاريم، وبنش، والدانا، ودركوش، وتفتناز، وأطمة، ومعرّة النعسان، والهبيط، ومحبمل، وحزانو، وكذلك في أرياف حلب الغربية والشمالية والشرقية، في إعزاز، والباب، والأتارب، وجرابلس، وعندان، ومارع، وبلدات الأبزيمو، وباتبو، وأورم، ودارة عزة، وكفر نوران، والجينة، وفي ريف حماة، شمال المحافظة وغربها، في مدن قلعة المضيق، واللطامنة، وبلدات كفرزيتا وكفرنبودة وجبل شحشبو وبلدات وقرى أخرى، ويستحق المتظاهرون أن تُذكَر أسماء مدنهم وبلداتهم وقُراهم بالاسم؛ لأن خروجهم بعد سبع سنوات من محاولة قتل الثورة السورية واغتيالها لا يُعبِّر فقط عن هزيمة جميع محاولات خصوم الثورة لوَأْدها حيةً، وتشويه صورتها وشعاراتها ووصمها بالإسلامية والإرهاب، أي نزع روح التحرّر والتطلعات الإنسانية الأخلاقية والسياسية والمدنية عنها فحسب، وإنما أكثر من ذلك عن حقيقة أن جذوة الثورة لا تزال مشتعلة، وأنها يمكن أن تتحوّل إلى نار حارقة من جديد، وأن الوحوش الضارية في برّية العلاقات الدولية الموحشة والمتوحشة لن يستطيعوا أن “يُسبِّعوها”، أو “يُضبِّعوها”، ويفرضوا عليها الاستسلام، أو يأسروا روحها الحيّة.

يشكّل تجدُّد المسيرات الشعبية حدثاً مُهِمّاً في مسار الحرب والمفاوضات الدولية حول سوريا، أولاً لأنها تُبرهِن على حدود الحلّ العسكري الذي جاء الروس خصّيصاً لإنجازه، بعد أن فشل فيه النظام والحرس الثوري الإيراني، فأمام مظاهرات إدلب، أيْ أمام تدخُّل شعبها بقوة وحيوية، وتنبُّه الرأي العامّ العالمي الرسمي إلى مخاطر اجتياح المنطقة، والثمن الإنساني غير المحتمل له، ومخاطر الانفجار الدولي على هامشه، وقبل ذلك في المنطقة، لم يبقَ أمام الروس إلا أن يعيدوا حساباتهم.

وإذا أعاد الروس حساباتهم في معركة إدلب، كما هو ظاهر اليوم من تصريحات الوزير “لافروف” أخيراً، وادّعى فيها أنه “لا روسيا ولا النظام كانوا ينوون الهجوم على إدلب”، فهذا يعني أن إيران التي كانت تراهن على تحويل سوريا إلى كتلة نار مشتعلة، ودفعها أكثر ما يمكن في اتجاه خصومها العرب والغربيين والأتراك أيضاً، قد فقدت ورقتها، ولم يَعُدْ لديها في مواجهة الهجمات التي تستهدف وجودها في سوريا ما يُمَكّنها من الاستمرار في اللعب والمقامرة.

كان رهان روسيا الرئيسي أن تستطيع، قبل نهاية العام، أن تُنهِي الحرب لصالحها، وصالح النظام وإيران، وتفرض سلام الأمر الواقع على الشعب السوري، وفي المعيّة على العالم، وفي مُقدَّمته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

وكانت تأمل أن يمكنها ربح المعركة العسكرية والقضاء على “الإرهاب” في سوريا، وتعني به الثورة وفصائلها، من إنهاء انخراطها الخاسر واستثماراتها السياسية والمادية والعسكرية المستمرّة فيها، والتفرّغ لقطف ثمار جهودها، صفقاتٍ وعقوداً، والضغط على الدول الغربية والخليجية الغنية، لإجبارها على دفع فواتير إعادة الإعمار أو تحمُّل نتائج الكارثة الإنسانية لمليون لاجئ ومهجَّر جديد، وأوضاع مأساوية داخلية، وعمليات إرهابية مبرمجة في أكثر من منطقة، وقف زحفها على أبواب إدلب، مهما كانت التنازلات والتسويات المحتملة، مثل تأمين المعابر أو السيطرة على بعض المواقع الإستراتيجية لحماية قاعدتها العسكرية في حميميم، يعني أن “نقبها طلع على حجر”، كما يقول المثل السوري، وهذا يعني أن الحرب لن تنتهي كما كانت تخطط وتشتهي، وأن الحل العسكري، على الرغم من كل الجهود التي بذلتها موسكو لإنجاحه، وأهمها التضحية بالشعب السوري بأكمله لصالح طهران والنظام، وما يعنيه ذلك من خسارة سياسية وأخلاقية، والغرق فعلاً في مستنقع البقاء من دون حلّ في سوريا، وتحمُّل عبء نظام فاسد ومتهالك وحليف إيراني مُحاصِر ومُستكلب على الفريسة من دون حسابات، وبلد مدمَّر من دون أمل، ولا أُفق، للخروج من الكارثة.

ليس الحديث عن ورطة روسيا أمراً متخيَّلاً، هي حقيقة مُرّة، على روسيا اليوم أن تدير وضعاً كارثياً من جميع النواحي الجيوستراتيجية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية، وبدل أن تحصد من تدخُّلها الكثيف والمكلف في سوريا مكاسب إستراتيجية أو اقتصادية أو سياسية، كما كانت تتوقع، فتفرض على الغرب التعامل معها من مستوى الندّية، أي بوصفها قوةً كبرى، وشريكاً سياسياً، ورفع العقوبات التي تنهك اقتصادها، والتفاوض معها على القضايا الإستراتيجية والأمنية في جوارها الأوروبي، والاعتراف بإنجازاتها في سوريا ضد “الإرهاب”، تجد نفسها اليوم أمام أسوأ الحالات: واجب الدفاع عن سياسة إيرانية توسُّعية وعدوانية هي نفسها لا تؤيدها، ولا تتفق مع مصالحها وسمعتها الدولية، وأمام الحفاظ على نظامٍ يحمل على كاهله عبء تدمير بلد كامل وتحطيم نسيجه الاجتماعي والاقتصادي، وأمام مسؤولية تشريد نصف أبنائه، ورميهم في المنافي ومخيمات اللجوء، مع انعدام أيّ حلّ لمشكلتهم في الأفق المنظور.

كان بإمكان روسيا ألا تقع في هذه المصيدة التي شجّعها على الدخول فيها الغربيون، وأغراها في الانزلاق إليها استهتارُها بالمجتمع الدولي، ودَوْسها على قراراته وتحدّيها أبسط قواعد التعاون الدولي، لكن، قبل هذا وذاك، الشراسة التي قرّرت فيها التعامل مع الشعب السوري، سواء برفضها الاعتراف به، وبحقوقه وتطلعاته، شعباً يستحق أن يُسمَع، ويُحاور، ويُشارِك في تقرير مصيره، ثم استسهالها استخدام القوة لتحويله إلى حطام، ومشاركة الأسد وطهران في تدمير شروط حياته، وتهجيره، وإعدامه سياسياً وتغييبه عن الوجود.

كل ما كان يحتاج إليه الأمريكي كيلا تصبح موسكو أداة في يد القوى الغربية والإسرائيلية لتقويض مستقبل سوريا، والحكم على شعبها بالإعدام، ولا تخسر رهانها، بل بالعكس تربح صداقة الشعب السوري، واحترام العالم وتقديره، هو أن تكون وسيطا حيادياً أو شِبه حيادي، في دَفْع السوريين، من أنصار النظام ومن خصومه، إلى طريق الحوار والتفاوض والتفاهم على حلٍّ سياسي، لوقف الكارثة، واستعادة التواصل والبدء بحياة جديدة، أو الأخذ بيدهم لتشجيعهم على أخذ الخطوة الأولى في هذا الطريق، لو فعلت موسكو ذلك، لكانت الوحيدة الرابحة للحرب، أيْ للسلام، في الوقت الذي كانت فيه بالفعل الوحيدة التي تملك الأوراق العسكرية والسياسية والمعنوية لإنجاح هذا المشروع، وحماية سوريا والسوريين، وكسب صداقتهما للأبد، موالين ومعارضين.

لكن موسكو اختارت الطريق الخطأ: تأديب الشعب السوري و”تربيته” بأقسى مما كان يفعل الأسد، حتى لا يفكّر بما دفعه إلى الثورة والاحتجاج، ولا يعود، في أيّ وقت قادم، إلى ما قام به في عام 2011، وتُنهِي إلى الأبد “وَهْم” المقاومة وحلم التحرّر والانتفاض على الاستبداد.

قررت موسكو أن تكون شريكاً للأسد وحامية له، وحوَّلت اتفاقات خَفْض التصعيد إلى شَرَك للإيقاع بفصائل المقاتلين وسكان مناطق “المصالحة”، وتسليمهم مقيَّدي اليديْن إلى أجهزة تعذيب الأسد وقتله، لم تحترم اتفاقاً، ولا رعت عهداً، ولا احترمت التزاماً، بدل أن تراهن على قوة الحق والمبادئ راهنت على حق القوة والاستعراض المدوّي لآلتها العسكرية وخداع العالم والاستهزاء بالرأي العامّ، للتغطية على القتل بالجملة والتدمير المنهجي، فصارت شريكاً في جريمةٍ غير مسبوقة ضدّ الإنسانية، بدل أن تكون وسيطاً مكرماً للسلام.

هل كان وراء هذا الخطأ الروسي القاتل الطمع بالشعب السوري الضعيف، أو استضعافه، أم الاعتقاد بأن الغرب قدّم سوريا لروسيا، تعويضاً عن العراق وليبيا، الذي لم يكن الوزير “لافروف” يكفّ عن تذكير وفود المعارضة بدرسيْهما اللذيْن لن تنساهما موسكو أبداً، أم الوهم بأن روسيا هي القوة العظمى العالمية الثانية التي لا تقهر، والتي تستطيع أن تفرض إرادتها حتى على خصومها الغربيين، فما بالك بهشيم السوريين الذين طحنتهم، قبل أن تتدخل هي بأسطولها الجوي، براميل النظام المتفجرة وصواريخ الإيرانيين ومدفعياتهم، أم هو بكل بساطة الغرور، غرور القوة الإمبراطوري الذي أفقد الولايات المتحدة ريشها من قبل في فيتنام، ثم في أفغانستان، وحتى في الصومال والعراق؟

لا ينبغي، مع ذلك، للسوريين الذين يستعيدون في مسيرات الشمال ثقتهم بأنفسهم، ويجدّدون عهد ثورتهم، أن يستهينوا بخصومهم، فالغدر هو “الفضيلة” الوحيدة التي يشترك فيها أعداؤهم الرئيسيون الثلاث، وإذا لم نشأ أن نترك لهم فرصة الانقضاض من جديد عند أول تغيُّر في ميزان القوى أو المواقف الدولية، يجب أن نُحَوّل المسيرات الشعبية إلى أبعد من التعبير عن استعادة نفس الثورة الأول، أو التأكيد على استمرارها، وأن ننطلق من هذا الانبعاث القويّ لروحها المتجدّدة لإعادة بناء مشروع التغيير الديمقراطي المنشود، لكن هذه المرة في بنيةٍ أكثر تماسكاً وصلابةً ورشداً، لا ينبغي أن تكون انتفاضة الشمال السوري اليوم مجرّد “فزعة” على إدلب وشعبها، ولكن فرصة لإعادة بناء مشروع الثورة ومؤسساتها على أسسٍ جديدة وثابتة، أي مبدئية، وتصحيح الأخطاء العديدة التي ارتكبناها في المراحل السابقة، أو غضضنا النظر عنها، وأن نخوض بهذه المناسبة معركة الوضوح أو الـ”غلاسنوت” داخل صفوف الثورة ذاتها، وتوضيح المواقف والإشكالات، ومواجهتها بجرأة وصراحة وحكمة معاً.

ويحضرني، في خاتمة هذا المقال، ما خطر لي مباشرة، وأنا أشاهد أشرطة التظاهرات، وهي تستعيد وهج مسيرات درعا وحماة وحمص وحلب والغوطة والدير والقامشلي وغيرها، أنه لا ينبغي أن تكون مسيراتنا اليوم تكراراً “مُمِلّاً” لمسيرات الماضي، ولا أن تُعيد إنتاج شعاراتها وأناشيدها، وتعطي الانطباع كما لو كنّا لا نزال نراوح في مكاننا منذ ثماني سنوات، وإنما يجب أن تكون شعاراتنا بنت المرحلة الراهنة، تنطلق من معاناتها، وتردّ على تحدّياتها الراهنة، يجب أن تصحح الانطباع السيئ الذي ولّدته هفواتنا وأخطاؤنا، فصارت أجهزة الإعلام العربية والأجنبية لا ترى في ثورة الحرية سوى صراعٍ بين نظامٍ مجرم وإرهابٍ وحشي، وأخرجت الشعب كلياً من الدائرة، كل شعارات الثورة ينبغي أن تعيد، منذ الآن، تجسيد رواية الثورة الحقيقية، أيْ شعب حر مقابل نظام جائر، وأن تتصدّر قيم الكرامة والحرية والمدنية والتعدّدية من جديد شعاراتنا.

إدلب المسيرات السلمية لم تعد إدلب المحافظة، إنها مصغَّر كبير لسوريا الحرّة بأكملها، هي، في الوقت نفسه، دمشق وحلب وحماة وحمص والدير والقامشلي والرّقة والحسكة ودرعا والبوكمال واللاذقية وطرطوس ومدن القلمون والقصير وغيرها، منها تستعيد الثورة مسيرتها، وفيها تجدّد شبابها، وتعود إلى شعبها.

المصدر العربي الجديد
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل