أصعب اللحظات التي من الممكن أن تمرّ في حياة أيّ شخص هو العجز عن إدراك، وفهم البيئة اللصيقة التي تحيط به، وعدم القدرة على التقييم والتحليل وفقدان أيّ أفق يتعلق بمستقبله ومستقبل بلده ومصالحه الوطنية، وهذا العجز يبدو نابعاً من حالة عامّة على مستوى العقل الجمعي لعموم البيئة التي كانت حاضنة لفكرة الثورة العفويّة والنقيّة، والتي كانت نتائجها مخالفة تماماً لمقدماتها وللغايات التي ابتغاها مُريدوها.
فالكلّ يشك في الكلّ والكلّ يُعادي الكلّ نتيجة ارتباطات لم تُبنى ولم تقم على أساس صلب ومتين من التكافؤ والندية والمصالح المتبادلة، وقد سقطت كلّ الخطابات والرؤى، وكلّ المناهج في وحل العلاقات والترتيبات والتحالفات ودهاليز الأجهزة ومراكز الأبحاث ومصالح الأغراب ممن صنفوا أنفسهم في خانة الأعداء أو الأصدقاء.
هناك قاعدة بديهية ومنطقية كانت ثابتة، وتبدو من المسلّمات حتّى وقت قريب تُفيد بأنّك إذا حصلت على أصدقاء للمساندة والدعم في صراع وجودي مع قوى أخرى تهدف لإقصائك أو تدجينك في أحسن الأحوال ضمن أسوار عاتية من الإرهاب والخوف والظلم (…) فإنَّ هذا يفترض أنّ مقاصد أصدقائك مخالفة تماماً لمقاصد أعدائك، ويُفترض كذلك عداءاً، ولو في الشكل بين هاتين الكتلتين إلّا أنَّ هذا ليس واقع الحال في حالتنا، وبدت هذه المسلمة “سخيفة وساذجة”، فللأصدقاء والأعداء أهداف مشتركة وغايات تبدو متداخلة ومتشابهة في أغلب الأحيان.
كلّ هذا جعل الشك والقلق والريبة من المصير والمآل طابعاً مهيمناً على كامل المحرّر في شمال سوريا الجغرافي بكامل قواه الشعبية والنخبوية الغير مُسيسة، ولم يعد التوقّع والتحليل المنطقي مجدياً ومفيداً في هذا الوضع (…) فعندما يكون مصيرك ومصير أهلك وبلدك في أيدي قوى مختلفة من الشرق والغرب بكلّ تشابك وتكامل مصالحها واستراتيجياتها يكون التقسيم والتوزيع على أسس خرافية مبتدعة لا تخطر على بال.
فإذا نظرت إلى الخريطة، وألوانها المختلفة تبعاً للسيطرة والنفوذ والأطراف الداعمة لن تجد شيئاً يؤكد أو ينفي صحة أو خطأ أيّ شيء، فلا ترى شيئاً ثابتاً على سبيل اليقين والقطع؛ فلا الأسس القوميّة في التوزيعات والترضيات ثابتة، ولا الطائفية ولا الحزبية ولا العشائرية، فالثابت الوحيد هو الغموض والصدمة والترتيبات المفاجئة التي لا تخطر على بال.
وسمة هذه الترتيبات والتفاهمات بين الأغراب المتربصين الماكرين هو سقوط مدوي لأحد ما في مكان ما من “قادة” أو مدعين لذلك باعوا وقايضوا بغباء وسذاجة بحسن نية أحياناً وبسوء نية في أغلب الأحيان.
إنّه الانتظار القاتل الذي يلف الخشبة المتناقضة منذ رفع الستار قبل ثمان من السنين، ووصل الأمر بكثيرين، وعلينا أن نمتلك الشجاعة والجرأة لإعلان ذلك برغبة محزنة ويائسة أن يسدل الستار على أيّ وجه أو صورة حتى وإن أطاح ذلك بحلم شعب تاق للحرية، وغدت تضحياتهم كلّها كغبار بيدر خريفي تذروه عواصف الشتاء المتعجلة.
اليأس والقنوط لم يكن يوماً صفة للسوريين أهل المهن والحرف والعلم والحضارات؛ لكنّه الخداع والظلم والعجز الذي التصق بقياداتهم التي فرضت نفسها عليهم في غفلة منهم أو بإرادة أجهزة ومكاتب خلف الحدود فلاهي عرفت كيف تبني، ولا كيف تسوس ولا استطاعت تقديم البديل الملائم للحكم والقيادة والإدارة.
كلّ ما تتطلبه المرحلة هو رجل متواضع وهادئ وصادق يضع منهجاً وطريقاً، ويحظى بثقة الناس، ويُعيد فيهم الأمل ويشحذ منهم الهمم وأن لا يستعجل في خطاه وإن طال الزمن.
أستذكر كلاماً قاله القاضي الفاضل لصلاح الدين قبل قرون خلت، وفي ظروف تكاد تكون متطابقة مع واقعنا هذا فقد قال: “إنما أوتينا من قبل أنفسنا، ولو صدقناه لعجل لنا عواقب صدقنا، ولو أطعناه لما عاقبنا بعدونا، ولو فعلنا ما نقدر عليه من أمره لفعل لنا ما لا نقدر عليه إلا به”.
لا تنتظر العساكر أن تكثر، ولا الأموال أن تحضر، ولا فلان الذي يعتمد عليه أن يقاتل، ولا فلان الذي ينتظر أن يسير. فكلّ هذه مشاغل ليس النصر بها، ولا نأمن أن يكلنا الله إليها، والنصر به واللطف منه والعادة الجميلة له ونستغفر الله من ذنوبنا فلولا أنها مسد طريق دعائنا؛ لكان جواب دعائنا قد نزل، وفيض دموع الخاشعين قد غسل، لكن في الطريق عائق.
عذراً التعليقات مغلقة