ليست فكرة الهجرة بجديدة أو طارئة عند الأفراد، إلا أنها فرضت نفسها بقوة على عقول السوريين في السنوات الأخيرة عندما شعروا بفقدان الأمان في مكان الولادة، لم تكن فكرة الهجرة من البلد تراود الكثير من السوريين فقد كانت فكرة احتياطية تأتي عندما يفقد هؤلاء الأمل بتأمين احتياجاتهم الأساسية في وطنهم ويصبح وجودهم فيه مجرد وجود مادي دون مضمون.
بدأت تتدفق ينابيع الهجرة دون أن تنضب عندما أصبح الموت يزور كل بيت سوري. كان قراراً صعباً أن ينسلخ الإنسان من جلده ويرتدي عباءة الغربة، ولكن عندما لا يجد الإنسان مكاناً ليدفن فيه فكيف له أن يجد مكاناً يعيش فيه.
هكذا كان حال كل سوري ركب موجة الهجرة لم ينظر إلى الخلف حيث ترك بيتاً أمضى كل عمره يرصف حجارته وذكريات لن تتكرر، ليس لأنه ناكر للجميل ولكنه كان موقناً أن غيبته لن تطول سوى شهور قليلة ليعود بعدها ويبدأ حياته من جديد.
وكحال أي شيء قابل للتغيير فقد مرت هجرة السوريين منذ بدايتها بعدة أطوار ربما كان أصعبها وأكثرها ألماً تلك الفترة التي كان يتجمع عدد كبير في مركب صغير لا يقوى على حملهم في عرض البحر ثم يتناثرون بين الأمواج ويصبحون مجرد أرقام في قائمة الموتى، ولكن كثرة الموت غرقاً لم تردعهم عن محاولة الوصول إلى بعض أحلامهم المؤجلة، ويذكر أحد الناجين ممن حالفهم الحظ بالوصول إلى مقصدهم بأن أصعب مرحلة كانت هي عندما ابتعدوا عن الشاطئ وكانوا خمسة وثلاثين مهاجراً في قارب لا يتسع لنصف هذا العدد، ورغم تلاطم الأمواج بهذا القارب إلا أن الشعور بالخوف لم يكن موجوداً حتى بدأ الأطفال والنساء بالصراخ والتوسل للرجوع لكن مواجهة الموت كانت حتمية، وهنا تمنى محدثنا لو أنه بقي تحت البراميل والقذائف والصواريخ على أن يموت في مكان مجهول لكن الأقدار شاءت أن ينجو المركب من الغرق ويصل الجميع وعلامات الموت مازالت على وجوههم.
وبالرغم من اتساع المناطق المحررة في مرحلة من مراحل الثورة إلا أن موجات الهجرة لم تتوقف، فقد كان منطق العقل المطالب بالهجرة يغلب على عاطفة القلب المتشبث بالأرض، ومع زيادة إجراءات منع الهجرة من قبل الكثير من البلدان والحصار الذي أطبق على بعض المناطق في سورية أصبح التفكير بالهجرة يرافقه كم كبير من الخوف، ومع ذلك كان هذا الخيار الوحيد للبعض مع بعض الإضافات كصعوبة الخروج من الحصار ثم تأمين مبالغ مالية كبيرة للمهربين من أجل اجتياز أسلاك شائكة أو جدران اسمنتية ربما يحول بينهم وبينها قناص أو مهرب جشع. وبين السير على الأقدام وركوب السيارات أو الدراجات لم يعد يقاس الطريق بالمسافة بل بالأيام التي يقضيها الشخص متنقلاً من مكان لآخر مفترشاً الحدائق أو الشوارع.
من وجهة نظر الواصلين إلى أوربا فإن حياة الرفاهية التي كانوا يحلمون بها لن تكتمل طالما أنهم تركوا خلفهم أحد أقربائهم ومن لم يترك قريباً له لم تتركه الذكريات فيبقى منقسماً بين الحنين والواقع، وطالما أن الرغبة بالعودة ما زالت موجودة لديهم فلا يمكن القول بأنهم وجدوا ضالتهم في بلاد تخالف بلادهم في كل شيء ناهيك عن وجود فئة من السكان الأصليين تعاديهم وذنبهم الوحيد أن الحرب أجبرتهم على أن يكونوا مهاجرين غير شرعيين.
عذراً التعليقات مغلقة