كان وقع قطرات الماء يبعث في نفسي السرور، حتى أتى ذلك اليوم، إنها ليلة السابع والعشرين من شهر كانون الأول من العام 2016.
المكان، فرع الأمن العسكري في حماه، غرفةٌ لا تتعدى مساحتها المترين، وقد وضعت فيها ثلاثاً وعشرين امرأةً وفتاة، بينهم أمٌّ بصحبتها ثلاثة أطفالٍ، ولم يكن يبدِّدُ سكون ذلك المكان، سوى صوت قطرات الماء، وصوت خطوات ذلك الرجل الذي يشبه الوحش.
لم أكن مثل البقية، فبعكس طبيعتي، أصابني الذهول حين أوقفت على ذمة التحقيق وأصبت بالذهول أكثر حين تم إنزالي مغمضة العينين، ومكبلة اليدين إلى الطوابق السفلية.
اقتادوني مثل الحيوانات النافقة، لم يكن للإنسانية أيَّ وجودٍ في هذا المكان، وعلى باب إحدى الغرف توقف ذلك الوحش، وصرخ بصوتٍ عالٍ “إيمان تعي فتشيها”، والتفتيش أكبر إهانةٍ قد تتعرض لها امرأةٌ سورية، حيث يتوجب عليها خلع ثيابها كاملةً أمام تلك المرأة، ووقاحة السجَّان.
لن أنسى ذلك الموقف ما حييت، حيث أُجبرتُ على خلع ملابسي، ليتم تفتيشي وكأنني مجرمةٌ خطيرةٌ، وبعد تلك اللحظات المهينة تضطر السجينة لحمل لافتةٍ كرتونية، سُجِّلَ عليها رقم، وهذا الرقم هو الشيء الوحيد الذي يُعرِّفها في ذلك المكان.
ثم إن أشد أنواع الرعب تمارس ضدها حين تُجبر على المرور في سردابٍ، حيث عُلِّقَ رجالٌ من جميع الأعمار، بثيابهم الداخلية، أيديهم مكبلةٌ ومربوطةٌ إلى السقف، أو الجدار، وأقدامهم لا تكاد تصل إلى الأرض، وبُرك من الدماء تغطي أرض السرداب.
أتذكر بأن أبشع منظرٍ رأيتهُ في ذلك السرداب، كان إبهام أحد المعتقلين، ملتصقٌ بالجدار، لا يوجد حقدٌ وكراهيةٌ بهذا الحجم إلَّا في “سوريا الأسد”.
بعد كل هذا الإرهاب الممنهج الذي رأيته في طريقي إلى مكتب المحقق، والبرد يتسلل إلى جسدي، وتوالت الأسئلة: “ليش طلعتي بمظاهرة، ليش عالجتي المسلحين، لونك أصفر ليش؟”، ولم أكن استطع الإجابة، فقد تجمدت كل الكلمات في فمي، ولا أعرف كيف سقطت تلك الجملة من بين شفتي: “كنت اسمع انو الافرع فيها ظلم وحقد، بس ما صدق انو لهدرجة اللي شفتها هلق بعيني”.
بعد هذه الكلمات، صحوت في مشفى حماه الوطني، قسم العينية. مكبلةً إلى السرير من يدي وقدمي، وبعد خمس وعشرين يوماً، اكتشف الأطباء وجود كتلةٍ ظهرت على الكبد فور دخولي إلى ذلك السرداب، وتم تحويلي من المشفى إلى الفرع، ليضعوا بصمتي على تلك الاوراق، التي لم أكن أعلم ما كتب فيها.
مُرغمةً، وقَّعتُ اأوراق اتهامي دون أن يُسمح لي حتى بقراءتها، وعند رفضي التوقيع، فوجئت بتوقيفهم لأختي، وإحضارها إلى الفرع، وعلمت ذلك من إحدى الموقوفات في الغرفة المجاورة حيث اعتقلوها يوماً كاملاً في إحدى المنفردات.
وضمن هذا الشعور باستهتار الكون بإنسانيتنا، تم تقييد يدي بيد أختي، ونقلونا في سيارةٍ كانت معدة لنقل الجنود الإلزاميين، إلى جهةٍ مجهولة في العاصمة دمشق.
ذلك الرجل، لن أنسى ضحكته المقرفة، أسنانه الصفراء، رائحة دخانه النتنة، كان اسمه المساعد (أبو علي) وهو سائق تلك الحافلة، كانت واضحةً في عينيه تلك الرغبة بقتلنا جميعاً، لكن بطريقته المقرفة، حيث كان يضع الأغاني الحزينة طوال الطريق، وأحسست بانهيارٍ في أعصابي وفقدت القدرة على كبح جماح دموعي، رغم أنني كنت الأقوى بين أخوتي والتي تمتلك رباطة الجأش، والجدار الصامد أمام ظروف الحياة، الذي يستندون عليه في أيِّ محنةٍ تصيبنا، ولكنني اليوم أشعر بأن هذا الجدار قد انهار تماماً، وأحسست بالعار اتجاه أختي المقيدة في معصمي، كيف لدموعي أن تهطل أمام انكسارها.
بعد عدة ساعاتٍ، وكنت أحسُّها أياماً، وصلنا إلى مبنى الشرطة العسكرية في القابون، ومن هناك اقتادوني إلى مخفر كفرسوسة في العاصمة.
هناك شاهدت أغرب القصص عن الدعارة، الارهاب، السرقة، والتسول، جُمعت جميعها في زنزانة واحدة، والمسؤول عنها الشرطي (محمد) اللص والانتهازي، والمسؤول عن تنفيذ سياسة هذا النظام، الذي يمكن أن يكون أقذر شخصية قد تصادفها في حياتك.
بعد وصولنا جائعاتٍ، منهكاتٍ من التعب والإرهاق الجسدي والنفسي، دخل علينا الشرطي محمد يسألنا من منَّا يريد الطعام، فأجبناه بأننا كلنا جائعات، ولكننا لا نملك أي مالٍ، فقد أخذوا كل ما كان بحوزتنا في فرع الأمن العسكري، وأودعوا المال في أمانات الفرع، أو هكذا أخبرونا هناك.
توجه إليَّ الشرطي يسألني إن كان بحوزتي أيُّ قطعة ذهبية “حُليّ”، فأعطيته قرطاً صغيراً كان في أذني ولا أملك غيره، أخذه على الفور وأحضر لي سندويشة فلافل واحدة، ومن لم يكن لديها شيء ذو قيمة بالنسبة للشرطي الانتهازي، لم تحصل على أيِّ طعام.
وفي اليوم التالي، تم نقلنا إلى سجن عدرا المركزي، جناح النساء، وهناك كان الأمر مختلفاً تماماً، حيث رأينا السجن المدني فندقاً بنجومٍ خمسة، بالنسبة لما رأيناه في جحيم الأفرع الأمنية، رغم أن السجون المدنية في سوريا عموماً، لا تضمن أبسط الحقوق للمعتقلين فيها، بالقياس مع كل سجون العالم.
حيث تصل المعتقلة إلى هذا السجن، خائفةً والرعب من المجهول يسكن ملامحها، فما رأته في الأفرع الأمنية يجعلها لا تثق بأيِّ عدلٍ في الدنيا قد تحصل عليه بعد الآن، وتستقبلها معتقلاتً لهم مدة طويلة في السجن، يقُمنَ بتأمين الاحتياجات الرئيسية وما يلزم لحمَّامٍ ساخنٍ، وثيابٍ نظيفةٍ، يعقبه كوبُ شاي، والذي كان من الممنوعات في الأفرع الأمنية، ثم حديثٌ تشعر فيه المعتقلة الجديدة ببعض الأمان والمواساة، من شريكاتٍ لها في الألم والقهر، وحياة الجحيم.
وأمام تأمين اتصالٍ هاتفي مع عائلتي، عبر حصالةٍ تحصل فيها المعتقلة على حصةٍ من الوقت مقدارها ثلاثة دقائق فقط لإجراء اتصالٍ مع العالم الخارجي، البعيد كل البُعد عن ما رأينا ونرى من أهوالٍ يصعب وصفها وحتى تصديقها، سرحتُ فوراً في خيالي، كيف سأصل إلى تلك الحصالة، وأسمع صوت أطفالي، لأعرف هل بكوا في غيابي القسري؟، هل اشتاقوا لي؟، من أطعمهم وماذا أكلوا؟، وهل، وهل، أسئلةٌ كثيرة تتدافعت في مخيلتي وصعَّدت من مشاعري لدرجة البكاء، حتى وصلت إلى الحصالة.
تناولت السماعة، بمشاعر مضطربة بين الخوف والاشتياق، والفرح، وأنا أتلعثم بنطق الأرقام للشرطية التي تقوم بتلقيم الحصالة رقم هاتفي، وبدأ الجرس في الطرف الآخر من القلب يرن، وتعود الأسئلة خاطفةً، سريعةً، قاطعةً، من سيرد من الأولاد أولاً؟، ماذا سيقولون؟، كيف سيتلقون صوتي؟.
ليأتي صوت المُتلقي بارداً، مثل برد ليالي كانون: “مين عالخط؟”
– “أنا .. زينة .. صرت بسجن عدرا .. عطيني الاولاد أحكي معهن .. خليني اسمع صوتن .. وبدي محامي .. وتياب ومصاري، لأن هون كلشي بالمصاري ..”.
لم أنتبه وأنا مسترسلةٌ في محاولة إيصال كل ما يدور في عقلي خلال حصتي من وقت الاتصال، بأن الخط كان مُغلقاً في وجهي، وكنتُ أتحدث إلى نفسي، وأنني وحيدةٌ، وحيدة، لا يواسيني في ذلك السجن، سوى قطرات الماء تلك.
Sorry Comments are closed