في مطلع هذا العام بادرت شخصية في ائتلاف المعارضة إلى عقد لقاء مع مثقفين وناشطين، من أجل الاستماع إليهم ومناقشتهم في ما آل إليه وضع الثورة، والاستماع إلى آرائهم في ما يخص أداء المعارضة وسبل تطويره.
بصرف النظر عن تفاصيل اللقاء، الذي لن يثمر أسوة بنقاشات أخرى، ثمة نقطة جديرة بالانتباه وهي أن أعضاء قيادات الائتلاف الذين توجهوا إلى ذلك اللقاء في مدينة أوروبية كان يفوق عدد المثقفين والناشطين الذين قابلوهم. أهمية هذه النقطة في كشفها ذلك السلوك الرخيص لأعضاء في الائتلاف بعد “خراب مالطا”، إذ يفترض أدنى منطق وأخلاق ألا يضم وفد الائتلاف المسافر من تركيا نحو عشرة أعضاء! المنطق يقضي بأن تتمثل أية جهة سياسية بممثلين أو ثلاثة لا أكثر، والأخلاق تقتضي ألا تتحمل هذه الجهة نفقات سفر لأعضاء ينظرون على الأغلب باستهتار إلى اللقاء، وجلّ همهم زيارة دولة أوروبية بذريعته بينما تشتد الحاجة للتوفير وإنفاق الأموال على حاجات ملحة جداً لسوريين متضررين. وإذا أتى تمويل اللقاء من مؤسسة ما في البلد المضيف فهذا أدعى لتقديم مثال على عدم استغلاله بشكل لا تعجز المؤسسة عن الانتباه إلى رخصه، إذ تكفي عمليات النصب والاستغلال التي مارسها البعض إزاء الجهات المانحة لتقديم دروس كافية لتلك الجهات.
القصة السابقة عينة عشوائية من ممارسات ربما تحتاج مجلدات للوقوف فقط على ما هو مؤثر منها ضمن الهيئات التي مثّلت الثورة والمعارضة خلال السنوات السبع الماضية، وهي ممارسات تواجدت بوفرة على الصعيدين السياسي والعسكري، لتصنع لنا ما يمكن تسميته بحيتان الثورة. الحيتان التي كانت تتضخم طوال الوقت مع أكلها الأسماك الصغيرة، فضلاً عما يصلها من تسمين أو نفخ خارجي، بحيث تحول قسم من الصراع ليصبح صراعاً بين الحيتان وما يمثّلون لا معركة ضد تنظيم الأسد.
في عالم الحيتان هذا لا مكان لرأي خارجه، وكل الانتقادات التي وجهها ناشطون ومثقفون خلال سنوات لا قيمة لها، ولن يكون هناك من يصغي إليها. في النتيجة لم يكن يضير تلك الحيتان الانفصال عن عالم الثورة وناسها، ولا الانفصال عن أهداف الثورة التي ترفعها شكلياً، من دون أن تتمثل قيمها في ممارساتها السياسية والتنظيمية، طالما أن الأولوية هي للصراع على مؤسسات الثورة والوصول من خلالها إلى القوى الإقليمية والدولية.
أمام الخارج سينعكس الوضع تماماً، فكل التجاهل والفوقية اللذين تمارسهما حيتان الثورة إزاء أهلها ينقلب تواضعاً وصغراً، ويجوز لأي منا تحدي جهات المعارضة أن تمانع إرادة القوة الإقليمية أو الدولية التي تتبع لها، ويجوز له تحديها أن تكشف عن أسباب خضوعها التام. بل يجوز أيضاً تحدي أولئك الذين استقالوا من بعض هيئات المعارضة أن يكشفوا عن أسباب استقالاتهم كاملة، وأسباب تأخرها، وأن يكشفوا بصدق الصفقات التي تحدث في الكواليس، سواء منها ما دل على ارتهان أيديولوجي أو فساد سياسي.
كان يلزم لحيتان الثورة الناشئة التحالف مع ديناصورات المعارضة، وأن يتصدرا معاً واجهة الثورة. وإذا كانت الأولى منهما أشبه بأخلاقيات أثرياء الفساد فإن الثانية يمكن تشبيهها بنادٍ للمحاربين القدماء، يتمتع أفراده بمهارات العمل السياسي السري أو شبه العلني الذي كان سائداً قبل الثورة، وإذ لا يمكن الانتقاص من نبل الكثيرين منهم أو من إحساسهم بالمسؤولية فإن سقف الثورة وأدواتها واحتمالاتها من طينة مختلفة عما ألفوه من واقع سوري، وما قد حصّلوه من طرائق تفكير.
في كل الأحوال لا نعثر على واحد من ديناصورات المعارضة يعلن تقاعده عن العمل السياسي، ولا نحظى بواحد منهم اكتسب خبرة جديدة واضحة يثبت بها تخطيه ما كان عليه، بل على العكس سنرى أفراد هذا النادي بغالبيتهم قد خسروا سمعة طيبة دخلوا بها هيئات الثورة، ولم يسلم عدد كبير منهم من اتهامات تتراوح بين ضعف الأداء أو سوئه وبين الانزلاق في صفقات سياسية إقليمية أضرت بسمعة الثورة والمعارضة.
ربما لم يحدث في تاريخ الثورات أن كانت الهياكل السياسية التي تدعي تمثيلها بعيدة أو منفصلة عن أهلها كما هو الحال بالنسبة للثورة السورية، فخلال سبع سنوات من تشكيل تلك المؤسسات وانقساماتها، وإحلال الجديد منها مكان القديم، كان أهم انجاز لتحالف الحيتان والديناصورات أن يفقد أهل الثورة ثقتهم بالنشاط السياسي الذي انطلقت الثورة للمطالبة في الحق فيه، وأن يعتبروا وجود معارضة لا تمثلهم ومنفصلة عنهم أمراً معتاداً، كما تعودوا من قبل على وجود نظام لم ينتخبوه ولا يمثّلهم. كان الستار الذي غطى هذا الوضع الشاذ الأولوية الممنوحة لإسقاط الأسد، والانحيازات الإجبارية بين الأكثر سوءاً والأقل سوءاً، وكان للمقتلة السورية الرهيبة مع التخاذل والتواطؤ الدوليين فضل التغطية على تهافت مؤسسات المعارضة وكوادرها.
أما الآن، ونحن على موعد قريب مع مقتلة إدلب ومع إسدال الستار على تلك المرحلة، فيتوجب القول أن تلك المعارضة لم يعد لها على الأرض ما تدّعي تمثيله، بعد فقدانها صفتها التمثيلية لدى الغالبية الساحقة ممن يرون أنفسهم منتمين إلى الثورة. لا شك في أن مثل هذا الكلام سيُقال لمسؤولي المعارضة من حلفائهم قبل خصومهم، ولن يتأخر سياسيون دوليون “واقعيون” في القول أن السياسة لا تبنى على الأخلاق والمبادئ وإنما على حجم كل طرف وقوته على الأرض.
بهذا المعنى قد نتسرع بالظن أن أطر المعارضة ستتوزع بين متقاعد وعاطل عن العمل، وأن القوى الدولية والإقليمية ستحيلها إلى المكان الذي كان ينبغي على أبناء الثورة إحالتها إليه حين اتضح تهافتها. لكن، كي لا نتسرع أكثر، ربما بقيت لهذه المعارضة وظيفة واحدة مطلوبة، هي إضفاء مشروعية ما على أسوأ التسويات المطروحة. وقد نخطئ إذا أحسنّا الظن بأولئك الذين تمنينا لو كذّبوا يوماً أسوأ ظنوننا. في الواقع ما بقي من شرف الثورة هو ألا تكون شريكة في التغطية على الجرائم الماضية والمقبلة، هذا الشرف الذي لا يُستغرب أن يفرّط به حيتان الثورة وبعض ديناصورات المعارضة قبل أن تقرر قوى الخارج فرزهم بين من يصلح في مهمة ترميم تنظيم الأسد ومن سيُسرّح من الخدمة.
عذراً التعليقات مغلقة