بثت وسائل إعلام لبنانية مشاهد أظهرت مجرى نهر في ضاحية بيروت الجنوبية وقد تحول إلى نهر من النفايات. قبل ذلك، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي صورا لمحمية وادي الحجير الطبيعية، جنوب لبنان، تظهرها وقد تحولت إلى واد من النفايات. في الوادي، تقوم جهات مسؤولة بحرق هذه النفايات، من حين إلى آخر، فتوسع بذلك الرقعة التي تطالها السموم المميتة.
ولطالما رفع مسؤولو “حزب الله” اللبناني ومناصروه اسم “وادي الحجير” كعنوان الانتصار الإلهي المزعوم على إسرائيل في حرب تموز/يوليو 2006، وأطلقوا عليه اسم “مقبرة الميركافا”، نسبة إلى الكمائن التي نصبها مقاتلو هذا الحزب لدبابات ميركافا الإسرائيلية.
على أن المفارقة تكمن في أن تكون “مقبرة الميركافا” هي نفسها “مقبرة اللبنانيين” بنفاياتها وبثها سموما حارقة، وهو ما يلخص حال “محور الممانعة” المزعوم، الممتد من طهران، إلى دمشق، فبيروت.
الخلاصة الكبرى من سياسات الممانعة وحروبها اللامتناهية هو الارتباط الوثيق بين القوة الحربية والبؤس المعيشي، أي أنه كلما ازدادت القوة، ازداد البؤس. بكلام آخر، يمكن ملاحظة أنه في حياة العرب والفرس ممن يعيشون في “نعمة الممانعة” و”الانتصارات الإلهية” و”الكرامة الوطنية”، كلما ازداد عدد الصواريخ تدهور مستوى معيشة “الممانعين”.
وبالطريقة نفسها ترتبط قوة رئيس لبنان بضعف لبنان ومسيحييه. فميشال عون أقنع المسيحيين أنه بعد عقد أو أكثر من الإحباط الذي عاشوه بسبب اضطهاد حكم عائلة الأسد للبنان وحليفها “حزب الله” للأحزاب السياسية المسيحية، انتصر المسيحيون بوصول عون إلى الرئاسة.
لكن وصول عون للرئاسة لم يكن بقوته، بل كان بسبب تنازله الكامل والشامل عن كل العنتريات التي تبجح بها طيلة حياته السياسية، فعون تسلق إلى دائرة الأضواء على ظهر تأييده لشعارات الرئيس المنتخب الراحل بشير الجميل، الذي خاض معارك حربية دموية لمنع سيطرة الأسد والميليشيات المتحالفة معه على لبنان، والذي رفض وجود ميليشيات مسلحة تقوض سيادة الدولة اللبنانية. أما عون، فابتكر “شعوذات” لتبرير تنازلاته، من قبيل أن مشكلة “حزب الله” دولية وأكبر من لبنان وحكومته ورئيسه، لذا، صار عون رئيسا، وراح يردد نفس التصاريح البائدة والمديح المتملق الذي كان يردده سلفه، رجل الأسد و”حزب الله”، إميل لحود، الرئيس اللبناني الذي ثار ضد حكمه العونيون مرارا، يوم كانوا يتمسكون بـ”السيادة والحرية والاستقلال”.
على أن السيادة المفقودة في زمن لحود صارت تبدو أفضل بما لا يقاس من السيادة المفقودة في زمن عون. صحيح أن لحود أطلق أيادي ولديه في استغلال السلطة للإثراء، إلا أن وضع لبنان المعيشي كان مقبولا في عهد لحود، وكانت الدولة تجمع النفايات وتتخلص منها. في زمن لحود، كان لبنان بلا سيادة وبلا نفايات. في زمن عون، صار لبنان بلا سيادة وغارقا بالنفايات.
قبل أسبوع أو أكثر، قدم رئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان سعد الحريري “صيغة” لتشكيل حكومته الجديدة، والصيغة عبارة عن توزيع عدد مقاعد الحكومة المقبلة على الكتل البرلمانية. رفض عون الصيغة ليستمر غرق لبنان في شلله الحكومي.
لم يرفض عون “الصيغة الحكومية” على خلفية الاعتقالات التعسفية التي صارت تطال كل اللبنانيين بسبب ما ينشرونه على مواقع التواصل الاجتماعي. ولم يرفض عون الصيغة بسبب النفايات التي تشرف على إزالتها اليوم شركة من الفاسدين اللبنانيين والأتراك. ولم يرفض عون الصيغة بسبب تفشي الفساد والإثراء غير المشروع الذي يكاد يمارسه كل سياسي في الدولة و”حزب الله” بدون استثناء.
رفض عون الصيغة لأنه يريد أكثر من 10 وزراء، ولأنه يريد سلطة أكثر ونفوذا أكبر، ولأنه يريد ضمان توريث الرئاسة إلى صهره. ربما هي أسوار القصور التي يسكنها عون وصهره وأقاربه التي تحجب عنهم رؤية النفايات التي يغرق بها لبنان، والبطالة التي يعاني منها المسيحيون، والتي رفعت من الهجرة في صفوفهم إلى معدلات غير مسبوقة.
يوم يمل مسؤولو لبنان، يستقلون يخوتهم وطائراتهم الخاصة، ويستجمون في صقلية وموناكو وغيرها من أفخر مصايف العالم، حيث يتمتعون بأموالهم المكدسة في بنوك سويسرا وجزر الكايمن وغيرها. أما العامة من اللبنانيين، فلا يتسنى لهم غير البقاء في البلاد ومشاهدة القمامة والنفايات المحيطة بمساكنهم، كما التي يشاهدونها عبر الإعلام.
Sorry Comments are closed