مهما تعدّدت التجارب السّياسية في الثّورة السّورية وارتفعت الأصوات ضدّ أو مع ظواهر وشخصيات وتمثيل سياسي أو عسكري، فإن ذلك حالة صحيّة كنّا نفتقدها لعقود طويلة، ولا نكلّلّ هنا الدمار المُحزن والدماء السّورية الّتي دُفعت ولا تزال تُدفع ثمناً لمعرفتنا المفقودة في الحريّة، على العكس تماماً، فالسلميّة الأولى التي أحاطت أيادي السوريين رفضاً للعنف، والمطالبة بالتغيير السياسي، استحوذت على خيالاتها أشكال من ردّات الفعل الّتي أوصلتنا، ربما، إلى ما نحن عليه اليوم من تراجع!
دول تساوم على مصالحها مدعيّة خوفها من كوارث إنسانيّة لخليط معقد من السّوريين في إدلب، هؤلاء الّذين لا يريدون البقاء تحت مقصلة النّظام الاجتماعيّة والنفسيّة والسّياسية، ولا يريدون حمل السّلاح والضّياع في “الفصائليّة المُفرطة” حيث عانت منها ذهنيّة العسكرة “الثوريّة” في أمكنة كثيرة. يريدون أن يكتبوا عبارات “اسقاط النّظام” ورفض الوصايات المحتلة للدول “الضّامنة”.
لم تمثّلهم الهيئات المعارضة، ولم تلحق بهم منذ اللّحظات الأولى للثورة حتّى الآن برأيي، وعلى جميع المستويات، دوليّاً وميدانيّاً، لازالت خطابات هؤلاء المتعدّدة تبحث عن هويتها السّورية، فهل لديهم فكرة عن الأهالي في مناطق سيطرة النظام وألمهم اليوميّ ومحاولة التّوحد معهم؟
هل يفكرون أيضاً أن الاختلاف في الرأي لا يجب أن يدفع للتكفير وقطع الرؤوس؟
هل يتابعون حقّاً كيف كانت الفصائل توقّع مع روسيا صُكوك الخيبة والتراجع، بينما اليوم يعتقل النظام قادتها؟
إنّ العالم بأسره يعرف أنّ الإنسانيّة ستتوجع لو حدث وانفجرت إدلب بالمعارك والرعب، ولكن لا يهتم لشأن الفصائل الّتي أعادت انتاج التجربة السياسية العسكرية بإدارة فاشلة لم تمتلك القاعدة الشعبيّة، ولو فعلت ذلك، فهي فاضلت على تمويلها ودعمها الخارجي مقابل التّخلي عن الأمانة الثوريّة، إذ أرسلت ممثلين عنها للمفاوضات وهي تخسر تباعاً قرارها السّيادي لأنّها لم تقم أساساً على الشأن الداخلي ورعاية الأهالي بمجالس مدنيّة مستقلة لا تقودها الأيديولوجيات العائدة إلى الغيّبيّات والاتكال على النّوايا!
يختصر منظر قادة الدّول الثّلاث “روسيا، إيران، تركيا” في طهران أثناء لقاء السابع من أيلول منذ أيام لأجل الملف السوري، فكرة “الفشل الثوري” المُشكّل لصورة الاحتجاجات السّورية، حيث اخترعوا لها اسماً هو “الحرب السّورية” وفي رواية أخرى “الحرب على الإرهاب” وفي مطرح ثالث “الجّهاد الشّاميّ” ولكن أحداً لم ينتبه إلى مصدر هذه التّسميات وهدفها من التفرقة بالفكرة وتشتيت الهدف الأبرز للحراك على أنّه احتجاجات شعبيّة، عفويّة. كانت تفتقد بعد انفجارها التاريخي إلى قيادة صلبة ومُتمرسة، وأعتقد أنها تنضج ببطء وقواعدها الفكريّة تنمو مع تراجع العسكرة إلى نهاياتها مهما كان الثمن، فالثورة تنتصر لأنّها حقٌّ لشعب كان محروماً لسنوات من حقوقه، فهل ثمّة من يدرك أن وصول محاولات الأهالي والأحزاب والكتل المفاوضة إلى طرقٍ مسدودةٍ مع نظام دمويّ تَحالف مع العدو حتّى يبقى في سدّة الحكم؟
كانت الإجابة في شوارع إدلب وأريافها في ذات اليوم الذي كان كلّ رئيس دولة من المشتغلين في الملف السّوري على طاولة مستديرة واحدة في طهران، يتداولون مواد البيان الختامي الذي لم يصل إلى شيء سوى المزيد من الانتظار الدولي والطيران الحربي يقصف أرياف إدلب وحلب وحماه واللاذقية، بحثاً عن “جبهة النصرة” بينما هذه الأخيرة تجنّد المرتزقة من أجل منع رفع “علم الاستقلال” المُتّخذ من المعارضة رمزاً لها! تصوروا حتى رفع علم موحد للمعارضة، ترفضه هذه الآفة المسلّحة التي سرقت الثّورة السّورية إلى “تجارة الجهاد” وصفقات الاستخبارات، والآن بعد نهاية دورها، ترفع عنها تركيا اليد! وقبل ذلك ضخّمتها الولايات المتحدة بدفع مبلغ عشرة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عن تواجد زعيمها المدعو “أبو محمد الجولاني” ألا يرى النّاس كلّ هذا الجنون واللّعب الإعلامي لصناعة فزّاعة “الجّهاد” من أجل انشاء عدو تُقاتله واشنطن في الشرق الأوسط لتبرر هيمنتها ووجودها العسكريّ؟ وكذلك الأمر بالنسبة للروس فهم يحافظون على مصالحهم في “حميميم” وباقي المدن السورية الاستراتيجية، وهلم جراً مع تركيا وإيران، الجميع يرسم الخرائط على قياس نفوذه، والخصومات يدفع ثمنها الأبرياء من السّوريين الرّافضين للنظام وغطرسته واحتلاله، ومن جديد يحاولون تصحيح المسار باتجاه القول والسلميّة، نزلوا إلى الشارع من كلّ المدن السّورية المهجرة في إدلب، رفعوا أصواتهم للعالم، والفشل الدولي يبحث عن باب يخرج منه أمام أنياب الذئاب وحصصها من دمنا وأرضنا.
يجب علينا قراءة الواقع بصوت هؤلاء النّاس، بصدقهم وحرقة حناجرهم، سبع سنوات من التراجع الثّوريّ تؤكد أن المحاولة يجب أن تكون محاولات، والاجتماع الحرّ بالقرار السّياسي يجب من يكون من الدّاخل السّوري، من العقل السّوري فقط! وأي مكان آخر يصدر عنه ذاك القرار، سوف يسقط تحت الأصوات الصارخة من إدلب “الشّعب يريد اسقاط النّظام”!
عذراً التعليقات مغلقة