استهتاراً بمشاعر وعقول الشعب السوري كعهدهِ، أرسل النظام السوري إلى دوائر السجل المدني في عدة بلداتٍ ومدنٍ سوريةٍ، قوائم بأسماء معتقلين قتلوا تحت التعذيب في معتقلاتِ النظام، وذلك لتسجيل واقعاتِ وفاتهم على أنها ناجمةٌ عن ذبحة قلبية، أو أزمة ربو حادة.
على أنّ هذا التصرّف غير جديدٍ على حكم آل الأسد، بل هو قاعدة أسسها الأسد الأب إلى أن صارت نهجاً متّبعاً في عهد الإبن، وخاصةً بعد اندلاع الثورة السورية. ويبدو لي في هذا المقام أنه لابدّ من التعرّضِ لأمرين:
أولاً – الآليّة المتّبعة للتغطيةِ على جرائم قتل المعتقلين تحت التعذيب:
من المفيد الذّكر أنّه في المرحلة السّلميّة من الثورة، كانت جثة المعتقل الذي عُذِّبَ حتى الموت لاتُسلّمُ إلى أحدٍ من ذويه إلّا بعد توقيعهِ على تصريحٍ خطّيٍّ مُنظّمٍ مسبقاً يفيدُ بإقرار المستلم بأن المتوفى قُتلَ على أيدي العصابات المسلحة، وبالطبعِ فإن الشخص لم يكن له أن يرفض التوقيع خوفاً من نفس المصير.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يرقى هذا الإقرار من مستلم الجثة إلى مرتبة الدليل القانوني المعتدُّ به والذي يمكن للنظام الاحتجاج به في حال حصول محاكمات مستقبلاً ؟
والجواب ببساطة، قطعاً لا، ذلكَ أنّ واقعة وفاة المعتقل لم تحدث أمامه، كما أن هذا الإقرار لم يحصل أمام جهة قضائية مختصة أثتاء إجراءاتٍ صحيحة، وكذلك لتوفر قرينة الضغط والتأثير على إرادة المستلم ساعة التوقيع في مركز الأمن.
أمّا بعد انتقال الثورة السورية إلى المرحلة العسكرية، فقد جرى العمل من قبل جهات النظام الأمنية على إعداد ضبط مرفقٍ بتقريرِ طبيبٍ شرعيٍّ مجبرٍ على أمره يبيّنُ فيه أن الوفاة ناجمة عن ذبحة قلبية أو أزمة ربو حادة. وتُرسل الأوراق بملفّ إلى المحامي العام، الذي يفترض قانوناً أن تتمّ تلك الاجراءات بحضوره، أو حضور ممثل عن النيابة العامة، ولا يملك المحامي العام في هذه الحالة إلا أن يقرر إحالة الملف إلى أحد ممثلي النيابة العامة من أجل حفظ ملف المغدور نظراً لعدم وجود جرم ووضوح سبب الوفاة، وعدم وجود شكوى بحق أحد.هكذا يحاول النظام تغطية الجريمة وآثارها ظنّاً منه أنّ ذلك يمحو الجرم ويمنعه من المساءلة والعقاب.
ثانياً – محاولة التّنصّل من المسؤولية الجنائية وأدلّةُ التجريم:
لاشكّ أنّ النظام يهدف من وراء تلك الاجراءات (إخفاء معالم الجريمة وآثارها على جسد المتوفى وتزوير سبب الوفاة في التقرير الطبي) إلى التّنصّل من المسؤولية الجنائية عن جرم القتل العمد، أو على أقلّ توصيف القتل القصد، لكن ّ كلّ ذلك الحرص، لن يعفيهِ من المساءلة الجنائية والعقاب مستقبلاً، عند رفع دعاوى بحق المسؤولين عن قتل المعتقلين تحت التعذيب، هذا إن لم تكن صنوف التعذيب الممارسة بحق المعتقلين تشكّلُ أسباباً مشدّدة للعقاب.
وبالرغم من عدم سهولة إثبات تلك الجرائم بحق المسؤولين عنها، نظراً لاتباع النظام بعض الوسائل التي تبدو قانونية (بإقرار مستلم الجثة بحصول الوفاة على أيدي العصابات المسلحة،والتقريرالطبي) إلّا أن مجال إثبات تلك الجرائم بحق المسؤولين عنها، متاحٌ من خلال أدلّة قانونية قويّة إن لم تكن قاطعة، نذكرها في عجالة:
أ- شهادة الشهود من المعتقلين الذين حالفهم الحظ بالنّجاة فأُفرجَ عنهم، والذين رافقوا مَن تم تعذيبهم حتى الموت من المعتقلين.
ب – القرائن القضائية: وهي عبارة عن وقائع حيثيات وظروف تتعلق بالجريمة، وتعطي المحكمة مستقبلاً القناعة والأدلة على ارتكاب جرم القتل بفعل التعذيب من قبل المتهم.
ونورد في هذا السّياق أمثلة عنها:
1- اعتقال ُالمتوفّى حيّاً من قبل أجهزة النظام،وخروجه ميتاً، وهذه قرينة على وقوع التعذيب والوفاة في المعتقل.
2- الظروف العامة في سورية وهي حالة احتجاحات. وانتفاضة شعبية عارمة واجهها النظام باعتقالات واسعة، وهذا ظهر َعلى وسائل الإعلام كافة.
3- ظروف أماكن الاعتقال الصّحّيّة السّيّئة، وهي مسؤولية النظام.
4- تشابه ُ أسباب الوفاة لآلاف المعتقلين لدى جهة واحدة- هي معتقلات النظام- والمرسلة أسماؤهم بما سُمّيَ قوائم الموت إلى دوائر السجل المدني.
5- الصور التي سرّبتها منظمات حقوق الإنسان السورية والعربية، والتي تُظهر آثار التعذيب على جثث المعتقلين.
6- آلاف الصور والوثائق التي سرّبها المصوّر العسكري الذي انشقّ عن النظام، والمعروف (بالقيصر) والتي تظهر آثار التعذيب على جثث المعتقلين، وآثار الجوع والهزال على الذين ماتوا بسبب الجوع.
7- إنّ معظم الشهداء الواردة أسماؤهم في قوائم الموت منذ بدايات الثورة بين العامين 2011-2013 أي حين كانت الثورة سلمية حسب اعتراف رأس النظام في أحد خطاباته.
8- نفي النظام وجود أي معتقلٍ لديه أمام ذوي المعتقلين المتوفين تحت التعذيب لدى سؤال ذويهم عنهم، وعرقلته وصول منظمات حقوق الانسان والمراقبين الدوليين إلى أماكن الاعتقال.
9- الأسلوب غير القانوني، وغير المعتاد في تسجيل واقعات وفاة المعتقلين، عبر إرسال ما اصطلح على تسميته (قوائم الموت)، وعدم إخبار أهلهم بالوفاة، وعدم تسليمهم الجثث، كل ذلك قرينة قوية على وقوع فعل مخالف للقانون، يراد إخفاءها.
عذراً التعليقات مغلقة