نمضي مدجّجينَ بالماء – شعر: سليمان نحيلي

(إلى أبي)

سليمان نحيلي30 أغسطس 2018Last Update :
سليمان نحيلي

ها أنتَ طاعنٌ بالمنفى

بلغتَ من الشّوقِ سبعةَ أولادٍ؛

شرِبتهم جهاتُ الأرضِ في هذه الحربِ..

نهنهكَ الحزنُ المنيعُ على

ضفةٍ ثالثةٍ لهذا الليلِ الطّويلِ…

زفراتُكَ لم تجدْ حدّاً أعلى من سقفِ الغرفةِ فارتطمتْ بهِ؛

وتسرّبَ منها إلى مسمعي صوتُكَ الشّبيه بالأنينِ تقولُ:

أكلت الحربُ الأولادَ والبلادَ

فمن لمْ تمضغهُ الحربُ

غيّبتهُ المنافي والحدودُ…

أيُّها الغيابُ: أما شبعتَ من شوقنا المسفوكِ بعدُ أيّها الغيابُ ؟!

خَذَلتكِ المسافاتُ يا عينُ

وبتنا نتسوّلُ زمناً يفضي إلى لقائهم ولو كانَ محفوفاّ بالأحلامِ

* * *

وأرى تقلّبَ وجهكَ في شتّى الجهاتِ؛

مبتكراً قبلةً أخرى صوبَ الوطنِ؛

فيما عيناكَ ترتبكانِ بالدّمعِ تحتَ النّظارة السّبعينيةِ؛

فتختلطُ فيها الجهاتُ والذّكريات والوجوهُ..

وعلى حين غصّةّ منكَ

أتطلّعُ بوجهكَ النّحيلِ؛

أرى الحزنَ تخثّرَ هالةً من السّوادِ حول عينيكَ..

فلي حينها أن أُفسّرَ طولَ هذا الصمتِ بالحنينِ – يا أبتي – وبألمٍ فائضِ الحسراتِ..

فأنا لم أُدركْ حتّى عينيكَ أنّه:

في سَورةِ العجزِ ينقلبُ الألمُ صمتاً عاليَ النّبرةِ،

وأنّ الكثيرَ من أوجاعِ الآباءِ يدفنونها في ترابِ الصّمتِ…

ولستُ أطلبُ تفسيرَ هذا الملحِ المتراكمِ على وسادتكَ

فلا بحرَ هنا سوى عيناكَ يا أبتي

ولا سماءَ سوى روحكَ نثرتَها

أسراباً من الزّهر فوق تضاريس الغائبين..

مرٌّ هو انكسارُ الشّيوخِ ومرُّ..

* * *

ذاتَ صمتٍ متبادلٍ يستفزّ كلَّ مافي الرّوحِ منْ حزنٍ أفضيتَ لي:

كم أتمنى الرّحيلَ كي أتخفّفَ من أعباءِ الحنينِ، كم أتمنّى الرحيل ؟!

لقد علمتني الحياةُ من أينَ يُؤكلُ الحزن..

تدرّبتُ على الموتِ أُمّاً فأخوينِ فأبا

لكنّي لم أتدرّب على أن تموت البلادُ ..

على مثل هذا الدّمِ المراقِ

وهذا العزاء اليوميّ

وهذا الحزنِ الثّقيلِ.. الثّقيلْ..

إنَّ دُوَارَاً يمسُّ الأرضَ وتعباً

لا دورانْ..

كلُّ الأشياءِ تسمو في هذا العالمِ ياولدي إلّا الإنسانْ …

فدعني أستريحُ من عنائي وأرحلُ

– لكَ أنْ تستريحَ يا أبتي، لكن:

كيف سأرى وجهكَ لأمنحَ روحي هبةَ الزّهرِ والكبرياء..؟!

وكيفَ سأُنادي على السّماءِ

كي أمنحَ نفسي فرصةً للخلودِ

وكي لا تغيِّرَ الأنهارُ مجاريها ؟!

وكيف سأُنادي على الوطنِ كي

لا ينساني الوطنُ على حينِ غيبةٍ؟

أم كيفَ سأُنادي عليَّ كي

لا أضلَّ بين الخيامِ والرّكامِ والمدى؟

لكَ أن تستريحَ يا أبتي..

وسوفَ نمضي مع النّهرِ

مدجّجينَ بالماءِ

لنا عطشُ الصّحارى

وإصرارُ المصبِّ للقاءِ المنبعِ ..

* * *

إنَّ أبي لم تقتلهُ القبائلُ

حتّى ينعقدَ في سيفي الثأرُ لهُ؛

لكنّهُ ماتَ بنوبةِ حنين ٍ

إلى وطنٍ يُجاهرُ بالمنفى..

فعذراً يا امرءَ القيسِ

وعذراً أيّها النُّدماءُ

اليومَ خمرٌ

وغداً خمرٌ وبكاءُ…

Comments

Sorry Comments are closed

    عاجل