سرمدا.. جرحٌ مفتوحٌ على السؤال سؤالٌ بحجم الأفواه الفاغرة والعيون المذهولة حدَّ الفزع.
سرمدا.. ويضيقُ المدى بالغبار والنّارِ والأشلاءِ اللحميّةِ البشريةِ المتناثرة بين الأنقاض.. أنقاض العمائر والضمائر.
في الخامسةِ اطمئناناً بعد صلاة الفجر، يُسمعُ صوتٌ، صوتٌ يصدعُ جبهة الهدوء المتراخي على سماء سرمدا.. انفجارٌ كونيٌّ اهتزت له جهات الأرض الأربعِ ولم تهتزّ شعرةٌ في ضمير العالمِ المسمّى متحضّراً، عالمٌ جاوزت فيه شرائع حقوق الانسان أعداد البشر على هذه الأرضِ مرات، شرائعُ غير قادرة ٍعلى حماية حبرها من المحوِ، فكيف تحمي طفلاً من ويلاتِ حربّ أشعلها الكبار والكبّارُ، حربٍ كان الصغار أفدح خسائرها، أهدتهم قذيفة هاون بدل زجاجةِ حليب ولعبة.
كانوا مهجرين، ركبوا قوافل النزوح مراتٍ عدة، تماماً كما انقسمت الراياتُ مئاتٍ عدّة، فصارَ الأخوةُ أهدافاً لبعضٍ، ومكث العدو الأوحد يذخّر لنا البنادق والضغائن ويتفرّج بحفاوةِ المنتصر على انتحارنا المتبادل، وموتنا المدفوع الثمن.
مهجرونَ قادمونَ من كلّ أصقاع الوجع الممتدِّ على طول الوطن، وطنٌ يوزّع الموتَ بأشكالهِ المتنوعة الفتكِ بالتساوي على الجميع، حينما أبى أن يوزّع الحياة عليهم بالتراضي، وطنٌ كان بحجم الكون، فصار بحجم مقبرة.
هناكَ في شمالِ الوجع أنزلتهم قافلة الوجع، في الشمالِ الآمنِ على ذمّةِ القذائف والسماسرة، هناكَ الأمّ عاودَ ثديها الحليبُ بعد أن حرنَ طيلةَ شهور الحصار والخوف والجوع، هناكَ حيث أسكنها أخوة الشمال شقةً تصافح منها الشمس، لكنها أبت أن تعقد معها صحبةَ الشروق الدائم.
قالت مناجيةً طفلها الخارج توّاً من الحصار: هاكَ ثديي يا حبيبي قد فاض حليباً وطمأنينةً عند أخوتنا، يرضع الطفل وينامان معاً نومةً أبدية.
كانوا حفاةُ عراةً يفترشونَ التراب.
هنا في سرمدا افترشوا ثقةً مفترضةً في الأهل، ومستودع ذخائر، مستودعاً لتجار الحروب والموت والأمصالِ وحليب الأطفال والحشيش. كانوا يفترشون الموت ولايدرون. ذنبهم أنهم فرّوا من تحت الحصار، ذنبهم أنهم لا يريدون لحياتهم أن تنتهي مثلما يشاء الأعداء، فماتوا مثلما شاء الأصدقاء.
حُرموا حتى من قبرّ يضمهم أحنّ عليهم من الأصدقاء والأعداء.
كان الأطفال في سرمدا يرتّبونَ أحلامهم وفق أفراحِ العيدِ، فاختارَ لهم ولاة المال والسلاح موتاً وفقَ أبجديةِ الأنقاض.
وماذا بعد في جعبةِ الموتِ يا سرمدا..
ياسرَّ الموتِ، وسرّ القهر، وسرَّ الجوع والأشلاءِ والسمسرة، وسرَّ المدى.
هناك في سرمدا، كان أبٌ يبحثُ بين الأنقاض والدمارِ عن جثّةِ طفلتهِ كي يواريها قبراً بمقاسِ طفلة.
فوجدَ لعبتها ولم يعثر عليها
عذراً التعليقات مغلقة