يمثّل كتاب جميل مطر وعلي الدين هلال “النظام الإقليمي العربي” (صدرت طبعته الأولى قبل قرابة أربعة عقود) المحاولة الرئيسة في دراسة (وتحليل) النظام الإقليمي العربي، وتطوراته، بخاصة خلال مرحلة الحرب الباردة، أي منذ الحرب العالمية الثانية إلى حين انهيار الاتحاد السوفييتي. إطار الكتاب بعيد كل البعد عن تقديم أي تحليل اليوم للتحولات البنوية والجوهرية التي تحدث في النظام الإقليمي، فمن الواضح تماماً أنّ النظام الإقليمي السابق انهار بالكلية، وأنّنا أمام نظام إقليمي جديد يتشكّل، مختلف تماماً في سماته وخصائصة عن السابق.
قامت منهجية مؤلفي الكتاب على وضع اعتبار خاص ومهم لمفهوم القومية العربية، أو الخصائص الثقافية والاقتصادية والسياسية المشتركة للمنطقة العربية، ولقدرة الأنظمة العربية على إيجاد قدر من السياسات المستقلة عن النظام الدولي (ثنائي القطبية حينها)، وعلى وجود ستة تحديات رئيسة، في مقدمتها إزالة التجزئة والتوجه نحو الوحدة القومية العربية والقضية الفلسطينية.
تخيّلوا هذه المعطيات أين أصبحت اليوم؟ أصبح الحفاظ على التجزئة والدولة القطرية هدفاً كبيراً، وباتت الهوية الوطنية أملاً يصعب الوصول إليه، مع صعود الهويات الطائفية والعرقية والدينية العابرة للحدود. أمّا التحديات فقلبت رأساً على عقب، فأصبح تحدّي المهجّرين واللاجئين والأمن اليومي وحماية الأمن الوطني (ولا أقول الأمن القومي للدول)، وحماية ما تبقّى من سلطة متهالكة في الأراضي الفلسطينية!
من يقرّر مصير سورية اليوم إيران وتركيا وروسيا، ومن يحدّد مصير العراق هو الصراع الإيراني – الأميركي، والدول العربية منقسمة بين دولٍ تحاول تشكيل تحالف سنّي – أميركي ودول تقف في الوسط، وأخرى أصبحت بمثابة الملعب الرئيس للصراعات الدولية والإقليمية، ودول مرتبطة بالمحور التركي – الروسي- الإيراني الجديد، والذي يحاول التشكّل والصعود لمواجهة الإدارة الأميركية الجديدة.
لا نزال في مرحلة انتقالية في بنية النظام الإقليمي، لكن المهم أنّ النظام السابق انتهى وتلاشى إلى غير رجعة، وأنّ كتاب النظام الإقليمي العربي يمكن أن يدرّس في أقسام التاريخ المعاصر، لا في كليات العلوم السياسية والعلاقات الدولية، وأنّ القوى الإقليمية (إيران، تركيا، إسرائيل)، التي كان يُنظر إليها بوصفها هامشية، خارج البنية الصلبة للأمن القومي العربي، أصبحت المتحكّم الرئيس في النظام الإقليمي اليوم.
من الصعب، الآن، التنبؤ بالحالة الأساسية التي سيستقر عليها النظام الإقليمي الجديد، والأسس الجديدة التي يقوم عليها، وسماته، وقواعده. لكن من الواضح أنّ هنالك هشاشة شديدة في مفهوم السيادة لدول عديدة، بصور مختلفة، وتضعضعا كبيرا في مفهوم الهويات الوطنية في هذه الدول، مع تزايد مساحة التدخل الخارجي واتجاهاته، سواء كان على صيغة إقليمية أو دولية، مع ازدياد ضعف وتهشّم السمات الاقتصادية – السياسية للمكونات الرئيسة السابقة للنظام الإقليمي (الدولة القُطرية)، انتشار الفساد والبطالة والفقر وفشل التنمية، الفجوات الطبقية، ضعف الاندماج الوطني.
لو تجاوزنا ذلك، وأعدنا ترسيم وتصنيف التحدّيات الكبرى التي تواجه الدول العربية التي كان من المفترض، وفقاً لمطر وهلال، أنّها تشكل البنية الرئيسة الوحيدة للنظام الإقليمي العربي، فما هي الخريطة الجديدة البديلة للتحديات الستة التي وضعها المؤلفان حينها بوصفها الأولويات الرئيسة؟ أترك المساحة للقارئ والمتخصصين، لكن، من وجهة نظري، التحديات اليوم أكبر بكثير وأخطر وتأخذ أبعاداً ومستويات مختلفة. الأول هو تحدّي الشرعية السياسية، واحتمالات الانفجار الداخلي، لارتباط هذ التحدّي بالفساد والفقر والحرمان وغياب الديمقراطية وفشل التنمية الاقتصادية في دول عديدة. وهنالك تحدّيات عديدة جديدة بالطبع، مثل الطائفية والهويات الفرعية التي تعصف بالسلم الأهلي، وتشكّل العقيدة الأيديولوجية الصلبة للمليشيات والعصابات المتقاتلة، وتحدّي انهيار مؤسسات الدولة أو عدم فاعليتها، وتحدّي الإدارة الأميركية الجديدة التي تسعى إلى تصفية نهائية للقضية الفلسطينية، وتحدّي الحوار الإقليمي الأمني مع القوى الإقليمية الفاعلة؛ إيران وتركيا.
Sorry Comments are closed