على الهواء المحبوس مباشرة
/من داخل سجون الأسد/
يكتبها: فادي مطر
*******
هنا سوريا
في ظلال الموت الممتد على تلك القطعة الجغرافية التي اسمها سوريا، تستمر الولادات المتكررة للسوريين، من أسس الحياة الطبيعية للإنسان ولادة واحدة تستمر حتى يأتي موت واحد لينهي تلك الحياة، لكن الأمر هنا مختلف، الخارج من تحت أنقاض بيته إثر قذيفة هوت به، ولد من جديد.
العائد الى المنزل من عمله ناجياً من موت، خطف أو اعتقال، ولد من جديد، الهارب من الموت ليركب الموت إبحاراً إلى أوروبا ولم يبتلعه البحر، ولد من جديد. الخارج من معتقلات النظام السوري، أكثر من ولادة جديدة، فهو ولد ومات خلال اعتقاله مرات ومرات، هو بالمعنى الحرفي للكلمة خرج من قبر.
تعددت الولادات والميتات، في بلد واحد اسمه (سوريا). أما أنا الناجي حتى لحظة كتابة هذه الكلمات فقد كانت ولادتي الأولى منذ اثنين وثلاثين عاما، كُتبت لي الحياة بعد عفوٍ أصدره الموت عني لا أعلم مدة انتهائه، فكانت ولادتي الثانية بعد خروجي من معتقلات العدم السورية.
مما آلفته برفقة الموت ذاك التاجر الماهر الذي ينتقي زبائنه بدقة وعناية، متجاوزاً الحديث عن التعذيب وفنونه وأساليبه، وطرقه العديدة التي توصلك لحافة الموت وقبل أن ترميك في الهوة السحيقة، تمرجحك قليلاً فوق الجحيم، ثم تعيدك لما يسمى حياة! لعبة الموت تسلية ممتعة لوحوش، لكائنات، مخلوقات بأشكال بشرية امتهنت التعذيب والقتل وعقدت اتفاقاً مع الموت مرة لك ومرة لها، ونحن بالمنتصف عالقون بينهما، أحيانا يختلط عليك الأمر، هؤلاء الوحوش لديهم من المهارة لمنافسة الموت تجعله، يرتجيهم أن يتوقفوا، ليتم مهمته بقليل من الرحمة، وفي لحظة ما يشعر بقايا الانسان جسدا وروحاً -المعتقل- أن للموت وجهاً وعيوناً تدمع يمكنه النظر إليه راجياً بعينين فارغتين من معنى الوجود والبقاء “خذني إليك أيها الموت لا تتركني وحدي معهم”. وبعد قليل وخلال هدنة مؤقتة تعقدها الحياة مع الموت، ثمة حلم ينهض في قلب من بقي على قيد الحياة، حلم كبير بحجم قطعة حلوى، فطيرة جبنة، وكأس شاي، الحلم بعشاء أخير لا أكثر ولا أقل. عشاء يلملم بقاياه من شريط سينمائي تنتجه الذاكرة بكل زخمها، يلتقط من تلك المائدة المتخيلة ما يؤكد وجوده بعد ولادة جديدة. صور تمر تحت جفنيه المتورمتين، يمضغها، ويزدرد ما بقيَ من لعابه المنكه بملح الدم العالق فيه، يسند رأسه لجدار زنزانته، يشعر بحنان ذلك الجدار، ربما يضمه، يربت على جسده المنهك برفق، يغمض عينيه، دون أن يعي إن كان الجدار يلين وينحني ليحضنه أم بقايا أرواح من كانوا قبله هنا، العالقة عليه تفعل؟
هنا سوريا ..
“ها أنذا أولد من جديد”.. يقف على ناصية الحلم، يفرد جناحيه فوق العتمة ويشعل شمعة كانت قد انطفأت منذ زمن، يرى وجه طفل بحضن امرأة تسمى أمه، أنجبته للحياة ليكون مهجة قلبها، ورفيقاً حنوناً لإخوته، تمر وجوههم بصعوبة، يحاول إيضاح الصورة، لقد كبروا قليلاً خلال موته المؤقت، يحزن لما أصابهم من حزن عليه، يلوم نفسه قليلاً، يفكر بحمايتهم، عليه أن يفعل، لا يريدهم، أن يختبروا، ما عاشه هنا، يشعر بالخوف، يطفئ تلك الشمعة، ليشعل أخرى، يجرجر روحه، يذهب لمكان آخر، هناك حيث أول عشق أصاب قلبه، أول قبلة، يضحك بملئ قلبه الدامي، وهو يداري خجله من رفاقه حين اكتشفوا سره “هل قبلتها كما فعل نجم سينمائي.. ذاك النجم الشهير؟!”
ومن شريط الذكريات، يعلو صوت الرفاق ومعهم صخب الحياة وجنونها، أيام الدراسة، أساتذته، يبتسم ساخراً من تلك العقوبات الصغيرة التي كان يتلقاها من أساتذته، عقوبات!! ويضحك صامتا ويقهقه حتى البكاء، وما إن يغفو على هدهدة الذكريات مستسلماً لنوم ودود علّه يأخذ جسده ويبتعد به قليلًا عن هذا المكان، حتى يقضّ الجوع سائر أنحاء جسده ويوقظه من الحلم، فهذا الزائر البغيض لا يرتوي بالأحلام ولا يستكين بأطباق الذاكرة، يجمع جسده عائداً به لمرحلته الجنينية، عبثاً يحاول إيجاد حبله السري، كي يسكت أنين الجسد الجائع، هنا في هذا المكان تنقطع كل الحبال مع الحياة، لا حبال إلا تلك التي تلف معصميه، تتنهض به وقت تشاء، تعلقه من أحلامه، ليبدو كرقم بارد لا معنى له، سوى أنه الرقم الذي أصبح اسمه.
هنا سوريا، نولد من الموت بعد كل موت، لا تفهم لماذا يصرّ الجسد على البقاء عندما تشتهي الموت، الجوع الذي يفتك بك، يجعلك راغباً بأكل أي شيء لتهدئ صراخاً مكتوماً في معدتك الخاوية كحبة تين يابسة، عليك أن تهجم بما استطعت من ضعف لتفوز بلقمتين من هذا الشيء الذي قيل لك أنه طعام.
هنا سوريا..
لا صوت سِوى بوق إسرافيل يقضُّ غشاء طبل الحياة معلناً قدومه كزائر منهمك في عمله لا يرضى بأحدٍ أن يُربك ترتيب مواعيده وغير آبه بعدد السنين من حياة زبائنه المرغمين على أن يكونوا سلعة متنقلة ما بين يديه، متعدد العوامل بنتاج واحد هو الموت.
عذراً التعليقات مغلقة