* شادي علاء الدين
تشابك حزب الله اللبناني منذ تكوينه مع العناصر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المحيطة به من منطلق طائفيته وولائه للنظام الإيراني الذي يرعاه. وقد نجح الحزب نسبيا في ربط جزء من الاقتصاد اللبناني بعناصره ومموليه بطريقة جعلت من ملاحقة هذا التنظيم أمرا معقدا ومثيرا لمخاوف المس من الاقتصاد اللبناني. هذه الورطة التي زج الحزب فيها لبنان كشفت عن نيته في إقامة اقتصاد مواز للدولة ربما تكون أميركا ذاتها مستفيدة منه.
عاد السجال بين حزب الله وحاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، والبنوك اللبنانية إلى الواجهة بعد تصريحات سلامة الأخيرة، التي أعلن فيها عن إقفال أكثر من 100 حساب من الحسابات الخاصة بحزب الله، أو بمؤسسات وشخصيات تدور في فلكه. كتلة الوفاء للمقاومة أدرجت تصريحات سلامة لقناة “سي أن بي سي” التلفزيونية والتي قال فيها “لا نريد أن يكون بضعة لبنانيين السبب في تسميم صورة لبنان وتشويهها في الأسواق المالية” في إطار التصعيد الخطير.
يعتبر حزب الله أن كلام سلامة يبرر للبنوك اللبنانية إقدامها على إغلاق حسابات مؤسسات طبية وتربوية تدور في فلك حزب الله، دون الرجوع إلى هيئة التحقيق الخاصة، التي كان قد تم الاتفاق على تشكيلها منذ مدة وجيزة، وخصوصا أن بنوكا لبنانية كبيرة، من قبيل بنك لبنان والمهجر الذي يعد البنك الثاني في لبنان، قد عمدت إلى إغلاق حسابات عائدة لحزب الله ومؤسساته.
الاجتماع الأخير بين حزب الله وهيئة التحقيق الخاصة أنتج تسوية مرحلية، تقوم على تحييد حسابات نواب الحزب وحسابات مؤسساته الخيرية والطبية المشتبه بها، وتأجيل القرار حول إبقاء الحسابات أو إقفالها إلى ما بعد انتهاء مدة الـ30 يوما التي كانت الهيئة قد حددتها سابقا.
الأزمة مرشحة للتفاقم وخصوصا أن البنوك اللبنانية تعمد إلى المسارعة إلى إقفال أي حساب يحتمل أنه يخص حزب الله بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، لأنها تعلم أن مجرد الشك في تحايلها أو محاولة خروجها عن دائرة القرارات الأميركية الملزمة، يعني خروجها من دائرة النظام المالي العالمي.
بقاء أو خروج
حزب الله من جهته يعلم أنه لا يستطيع أن يفرض على البنوك اللبنانية تجاهل القرارات الأميركية، ولعل الحزب يعاني حاليا من ربط الحركة المالية للبيئة الشيعية بشكل كامل به بحيث لم يعد من الممكن فصلها عنه. وبالتالي فإن شبكة العقوبات الأميركية في صيغتها الحالية تطول كل البيئة الشيعية التي تشكل جزءا وازنا من بنية الاقتصاد اللبناني ككل، ما من شأنه توسيع حدود الارتدادات السلبية للأزمة من حدود استهداف حزب الله إلى تفكيك بنية الاقتصاد اللبناني عموما. وهذا الخطر الذي يمكن أن يمس الاقتصاد اللبناني جراء سلوكات حزب الله، يطرح عددا من الأسئلة التي تدور بالأساس حول طبيعة هذه الأزمة وما هي الحدود التي يمكن أن تصل إليها؟ وكيف يمكن فهم مساراتها وأبعادها؟
يعرض الخبير الاقتصادي اللبناني مازن سويد طبيعة العقوبات ويشرح تأثيرها قائلا “طالما أن الدولار هو العملة العالمية فإن أي عقوبات تفرضها أميركا على أي جهة في العالم ستؤثر حتما على نظامه الاقتصادي. من هنا فإنه ليس أمام البنوك اللبنانية سوى خيار الالتزام الكامل بالعقوبات والبقاء في النظام المالي العالمي أو رفضها والخروج الكلي منه”.
يضيف سويد “لا بد لأي تحويل مالي في العالم أن يمر عبر بنك أميركي. من هنا فإن الموضوع لا يتعلق بتثبيت الليرة اللبنانية أمام اليورو، أو توقف الربط مع أميركا (وهو ما تدعو إليه بعض المقالات والتصريحات)، بل بالبقاء في النظام المالي أو عدمه. وعمليا لا يمكن للنظام البنكي اللبناني أن يمزح في شأن تطبيق العقوبات إلا إذا كان يمتلك اقتصادا مماثلا لاقتصاد كوريا الشمالية الذي يعزل نفسه عن الاقتصاد العالمي”.
ويشرح الأثر المباشر للعقوبات معتبرا أن “العقوبات تصيب حزب الله، وقد تصيب أناسا لا شأن لهم. لا نطلق هنا أحكاما أخلاقية، بل نعرض الأثر الاقتصادي وهو أثر يتسم بقدرة على التسبب في تداعيات سلبية بمجرد تسمية أي جهة”.
يدعو سويد إلى عدم الاستخفاف بالعقوبات، ويشير إلى “أن البنوك العالمية كانت قد دفعت حوالي 250 مليار دولار كعقوبات، وأن دولا طالت بنوكها العقوبات مثل فرنسا التي حاولت الاحتجاج عليها دون جدوى، لأن أميركا هي الحاكم الاقتصادي للعالم، ولا يمكن الفرار من العقوبات التي تفرضها”.
يرسم الخبير الاقتصادي مشهدا حافلا بالسلبيات، ولكنه يرى في الآن نفسه أثرا إيجابيا قد ينشأ في حال الالتزام التام بالعقوبات. إذ يؤكد سويد أن “الوضع الاقتصادي متأزم دون شك، والعقوبات ستدفع البنوك إلى المزيد من التشدد ليس تجاه حزب الله وحسب بل بشكل عام، ما سيعيق الحركة الاقتصادية. ولكن قد يكون للالتزام الكامل بالعقوبات أثر إيجابي، حيث أن مخاوف أصحاب الرساميل والمستثمرين من الدخول إلى السوق اللبنانية قد تتبدد بعد أن يثبت لبنان التزامه بالعقوبات، ما يعني استمرار وجوده داخل المنظومة الاقتصادية العالمية”.
اقتصاد مواز
يعتبر الباحث الاقتصادي اللبناني كامل وزنة أن هناك “مواجهة مفتوحة بين حزب الله والبنوك اللبنانية، وأن الحزب لن يقبل باستضعافه في الداخل اللبناني وخصوصا من قبل البنوك، والمواجهة ستكون مفتوحة لأن الاتجاه الأميركي يميل إلى تشديد العقوبات”.
يؤكد وزنة أن هذه العقوبات “تمهد لمرحلة خطيرة قد تؤدي إلى نشوء نظام مالي مواز للنظام المالي اللبناني القائم، حيث أن أموال حزب الله ليست موجودة داخل النظام البنكي اللبناني، ولكن هناك العديد من المؤسسات التابعة له داخل هذه المنظومة وهي لن تبقى داخلها، وقد يصار بطريقة أو بأخرى إلى إنشاء تركيبة مالية جديدة للبنان”.
يتهم وزنة تركيبة مصرف لبنان بمفاقمة الأزمة، ويرى أن المرحلة القادمة قد تدفع في اتجاه “تغيير تركيبة مصرف لبنان حيث أن البيئة الشيعية المتضررة من توجهاته والتي لها صوت انتخابي وازن داخل المؤسسة، قد يكون لها دور في تعديل تركيبة السلطة في المصرف من أسفل القاعدة وصولا إلى الحاكم”. ويشير الباحث الاقتصادي إلى أنه “من المبكر الحديث عن تداعيات عامة تطول الاقتصاد اللبناني ككل، ولكن المؤكد حتى الآن أن استمرار مصرف لبنان في التشدد من شأنه أن يعزل فئة لبنانية معينة. هذه الفئة ستفتح عنوان المقاومة المالية، وقد تضغط في اتجاه إنشاء مؤسسات بديلة عن المؤسسات الرسمية، حيث لن يكون هناك من خيار سوى إقامة أنظمة مالية بديلة”.
يبدي الخبير الاقتصادي إيلي يشوعي استغرابه من منطق فرض العقوبات الأميركية على حزب الله، معتبرا أن هذه القرارات “لا علاقة لها بالإرهاب، ولا بالتهرب الضريبي ولا بمكافحة تبييض الأموال. المسألة هي أن الأميركيين لا يريدون مساعدة لبنان في ضبط الحدود، فالأموال تدخل من الحدود البرية، والجوية، والبحرية، وطالما لم تضبط هذه الحدود فإن الأموال ستستمر في التدفق لصالح حزب الله وغيره”.
يعتبر يشوعي أن استياء حزب الله عائد إلى أن العقوبات تطول “كل الطائفة الشيعية التي ترتبط معه بعلاقات مباشرة وغير مباشرة، فهي تشكل البيئة الحاضنة له والتي تموله وتساعده، ولا يجب أن ننسى أن حزب الله قد أعلن بنفسه مرارا وتكرارا أنه لا يتعامل مع القطاع البنكي اللبناني، بل يتلقى الأموال نقدا، ولكن العقوبات الأميركية تعتمد صيغة جديدة تصيب هذه البيئة، والتي لا تزال تدور في فلك الاقتصاد اللبناني والقطاع البنكي اللبناني”.
ويؤكد مراقبون أن العقوبات الأميركية تنطوي على أهداف بعيدة المدى. ويقول في هذا الصدد “الكتلة الشيعية في لبنان تمتلك قدرات مالية تصل إلى حدود الـ40 مليار دولار. من هنا فإن أميركا تهدف إلى أن تتحول نيويورك إلى جنة للحسابات الشيعية الهاربة من لبنان، ولا أستغرب إطلاقا أن تستقبل نيويورك كل الكتلة النقدية الشيعية التي تترك القطاع البنكي اللبناني”. ويضيف إيلي يشوعي في هذا السياق قائلا “أعتقد أن هذا ما سيحصل في حال استمر إقفال الحسابات البنكية العائدة لشخصيات ومؤسسات شيعية في لبنان، وخصوصا أن هناك خيطا رفيعا للغاية يفصل بين المتعامل الفعلي مع حزب الله وبين غيره.
تبنى العقوبات على أساسها، ويسهل خروج المال الشيعي من لبنان بحثا عن أمكنة أخرى”.
يضع المحلل الاقتصادي اللبناني غالب أبومصلح العقوبات الأميركية في خانة الحرب الوجودية على حزب الله، ويرى فيها “هجوما وجوديا لعزل حزب الله، ولو أدى ذلك إلى تدمير كل الاقتصاد اللبناني”.
ويرفض أبومصلح كل الكلام الذي يقال حول وجود مظلة دولية عموما وأميركية خصوصا لا تزال تؤمن الحد الأدنى من الحماية للاقتصاد اللبناني، ويصرح في هذا الصدد مؤكدا أن “الأميركيين لا يبالون بالنتائج الكارثية التي من الممكن أن تتسبب فيها العقوبات التي يفرضونها على الاقتصاد اللبناني، لأن الهدف الأساسي لم يعد إضعاف حزب الله بل محاولة القضاء عليه، فالنظام الأميركي يريد عزل حزب الله وجمهوره عن الاقتصاد، ما يعني عمليا القضاء عليه”.
يعترف أبومصلح بأن حزب الله في مأزق، وبأن المخارج التي تطرح والتي تعتبر أنه بالإمكان الخروج من المنظومة المالية النقدية اللبنانية والعالمية ليست سهلة على الإطلاق حيث أنها “قد تدفع كل الجهات الممولة للحزب من أصحاب رؤوس أموال ومؤيدين، وصناعيين، ومهنيين، ورجال أعمال إلى الابتعاد عنه”.
ويضيف أبومصلح أنه تجب الإشارة إلى أن حاكم مصرف لبنان لا يقول إنه بصدد التراجع عن تنفيذ العقوبات، بل كل ما يفعله أنه يعمد إلى تزيينها وحسب، وعمليا فإن السياق التنفيذي المتدرج للعقوبات سيؤدي إلى عزل حزب الله عن الاقتصاد اللبناني.
* المصدر: “العرب”
عذراً التعليقات مغلقة