يروقُ لكثيرٍ من الكتّاب والمفكّرين ومَن يقدّمون أنفسهم كشخصيّاتٍ عامة، أنْ يردّوا المشكلات الراهنة في بلداننا إلى فكرٍ ما، يُوصف عادةً بأنه سلفيّ أو رجعيّ أو متطرّف أو متشدّد أو إسلامي أو داعشيّ أو ظلاميّ… ويحلو لأصحاب السلطات وأبواقها هذا التفسير، فتراهم يجهدون بالحديث عن “الفكر الظلامي” وعن ضرورة مواجهته بفكرٍ آخر يسمّونه “الفكر التنويري”. ولهذا الضرب من التحليل القاصر والاستنتاج المشوَّه نتائجُ خطيرة، منها:
- إنه يغضُّ النظر عن المشكلات السياسية والإدارية والاقتصادية والتعليمية والخدمية المتراكمة منذ عقود، ويُبرّئ المسؤولين الحكوميين المسؤولين حتماً وقطعاً ودونَ جهالةٍ عمّا آلتْ إليه الأمور، ويردّ كل المصائب إلى “فكرٍ عاطلٍ” ما.
- وبما أنّ الفكر العاطل في نظر الأنظمة الإمبريالية الغربية، والأنظمة القومية العربية، هو الإسلام، مضافاً إليه توصيفات مثل: الإسلام المتطرّف- الإسلام الوهّابي- الإسلام الداعشي… فإنّ النتيجة المرجوّة من تحميل هذا “الفكر” مسؤولية تلك المصائب، ثم الحديث عن “بيئات متطرّفة” و”بيئات حاضنة للإرهاب”؛ هي صناعة بروباغاندا عنصرية تجاه “المسلمين”، بغرض تبرير قتلهم وسرقة أملاكهم وتهجيرهم. (كثيراً ما سمعنا توصيفاً لمناطق كاملة بأنها إرهابية! إنه خطاب الاستعمار والاستشراق على لسان الوكيل الاستعماري المحلّي).
- وبما أنه فكرٌ عاطل، فقد جاء بالتأكيد بالتأكيد بالتأكيد من الخارج، فنحن لا يأتي منا إلا كل ما هو حَسَن. ومن هنا يبدأ تعزيز الشوفينية الوطنية المؤمنة بتفوّق الأنا على طريقة النازية، عن طريق “نكش” الأساطير القديمة وتحميلها ما لا تحتويه من القيمة الفكرية أو الحضارية، وتكرار التوصيفات السُلْطَوية الشَّعْبَويّة لـ “بطّيخنا” العظيم و”مكدوسنا” الأعظم، ثم نتحدث عن وجود “رسالة حضارية” نحملُها كشعبٍ مميّزٍ ذي صفاتٍ مميّزةٍ إلى العالم (رسالة سوريا العظيمة، ذات رسالة خالدة)، وليس هذا سوى تقليدٍ أعمى وأبله لـ “رسالة الرجُل الأبيض” في تحضير الشعوب المتخلّفة (أي خطاب الاستعمار منطوقاً على لسان المستعمَر). وبموازاة ذلك، نعزّز عنصريّـتنا -الناجمة عن جنون الاضطهاد- تجاهَ دول الجوار وشعوبها.
تـيّـاران متناقضان.. متشابهان:
هنالك تيّار عريض من المثقفين العرب، يردُّ مشكلاتِ بلداننا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلى الفكر، وهو الفكر العربي-الإسلامي بالطبع. والغريب أن كثيراً منهم يساريّون وشيوعيّون سابقون أو دائمون، لكنهم أبعد ما يكون عن التفسير الماركسي للتاريخ، وأقرب ما يكون إلى أفكار اليمين الأوروبي المتطرّف. من أبرز شخصيات هذا التيار الشاعر والمفكّر أدونيس، فأدونيس يتحدث منذ عقود عن ضرورة قراءة الموروث الديني والثقافي قراءة جديدة، وتأويله تأويلاً جديداً، ومن ثمّ سوف تنحلّ كلُّ مشكلاتنا؛ بدءاً من المدارس غير البشرية وليس انتهاءً بالجيوش غير الوطنية… إلخ. وأنا إذ أتفق مع ضرورة إعادة القراءة وإعادة التأويل، إلا أنني أشكّك بأن يكون لذلك نتائج سحرية في المجالات الأخرى.
في مقابل ذلك، يقف تيارٌ أوسع أسَّسَه حسن البنّا وسار فيها الألوف من الإسلاميين والمسلمين، وهو الذي يردّ كل مشاكلنا إلى الفكر أيضاً، والفكر العربي-الإسلامي نفسه، لكنّ الفرق أنّ سبَبَ المصائب -عندهم- هو ابتعادنا عن ذلك “الفكر” وعدم تمسّكنا به. وما علينا سوى العودة إلى “الإسلام الصحيح” وتطبيقه، حتى ننهض سياسياً واقتصادياً وسياحياً وتكنولوجياً…
نلحظ أنّ كلّاً من التيارين يردُّ الواقع إلى الفكر، بدلاً من أنْ يردّ الفكر إلى الواقع. وأنّ كلّاً منهما يحمّل الدين ما لا يستطيع حملَه من العلاقات الماديّة والعلوم المتنوعة والمجلات التنموية. هذا يرى بأن الإسلام هو المشكلة، والآخر يرى بأنه الحلّ، وليس الإسلام -كما أرى- لا المشكلة ولا الحلّ.
مثال يوسف زيدان:
سبق للباحث والأديب يوسف زيدان أن ناقش كتاب “تاريخ اليهود في بلاد العرب” على شاشة Otv، ووصل في نهاية المطاف إلى أنّ العداء بين العرب وإسرائيل؛ سبَبُهُ “بعض المتطرّفين الحقراء” من المسلمين و”بعض المتطرّفين الحقراء” من اليهود. وما علينا سوى أنّ نغيّر الفكر العاطل عند هؤلاء “المتطرّفين الحقراء”، ونضع محلَّه قليلاً من الفكر التنويري الكَـيِّس (فكر يوسف زيدان مثلاً) حتى تنحلّ المشكلات ويزول العداء. وكأنه ليس هناك احتلالٌ واستيطان وتهجير وجرائم منذ سبعين سنة!!
مثال منتخب تونس:
بعد خسارة منتخب تونس وخروجه من الدور الأول في المونديال، ردَّ بعضُ المثقفين العرب -وخاصةً اليسار التونسي الـمُـجاكِر لحركة النهضة- الخسارةَ إلى الفكر الغيبيّ الذي يؤمن بأنّ النصرَ من عند الله، واستشهدوا بصورةٍ للاعبي الفريق والمدرّب وهم يقرؤون الفاتحة قُبيل المباراة، وعلّقوا بأنّ الخسارة من نتائج “الإسلام الرياضي” (على نمط الإسلام السياسي). نفهم من هذا اليسار المثقف بأنّه لو اعتنقَ لاعبو تونس المسيحية أو اليهودية أو البوذية أو الشيوعية أو الإلحاد لكانوا قد فازوا وتأهّلوا؟! حسناً إذاً، لماذا لم يؤثّر الإسلام وقراءة الفاتحة قبل المباراة على لاعبَـيْ فرنسا (بوغبا و كانتي) وكانا من أفضل لاعبي البطولة؟!
مثال حازم صاغية وياسين الحاج صالح:
سبقَ للكاتبين حازم صاغية وياسين الحاج صالح أنْ نشَرَ كلٌّ منهما مقالاً في جريدة الحياة في النصف الثاني من عام 2013، يقول فيه ما يمكن اختصاره بأنّ “داعش وحزب البعث وجهان لعملة واحدة”.
انطلقَ كلٌ من الكاتبين من فرضيةٍ مفادُها أنّ هنالك “فكراً” (داعشياً أو بعثياً)، ومن هذا الفكر تأتي الممارسات والأفعال (الداعشية أو البعثية). ثم بـحَــثَـا ووَجَدَا تشابهاً ظاهرياً وسطحياً في الممارسات والأفعال بين داعش والبعث، مثل القمع والإقصاء والتعذيب والقتل والتوسُّع الإقليمي (سوف نجد مثلَها في كثيرٍ من بقاع الأرض، لو فكّرنا لمدة خمس دقائق). ثم رجَـعَـا (أَنَـرْيِـيْـه) إلى الفكر، وخَلُصا إلى أنّ هذين الفكرين وجهان لعملة واحدة!!
أعتقد أنّ هذا الضرب من التحليل والاستنتاج كان في الفلسفة المثاليّة بداية القرن 18، وهو ما يشبه مثال السرير الأفلاطونيّ، أي أنه عكس التفسير الماركسي الذي كنتُ أتوقّع من الكاتبين أن يكونا متشبّعين به. يُفترض من الماركسي أو الماديّ أو العِلْمويّ أن يقول بأنّ الأفعال والممارسات التي قام بها البعث بعد وصوله إلى السلطة، هي التي أنجبتْ فِكْره (سياسته، خطابه، دعايته) كما عرفناه. وأنّ ممارسات داعش وأفعالها هي التي صنعت “فكْرها” (صورتها، خطابها، دعايتها). ولا تأتي هذه الأفعال والتصرفات أو تلك من فكرٍ ما، بل من الشروط التاريخية والجغرافية والعلاقات السياسية والاقتصادية التي نشأتْ ومُورِسَتْ فيها. (دون نسيان أنّ لتصنيع داعش أيادٍ خفية، وأنها ليست تطورّاً طبيعياً لأي شيء). المقصد أنّ الفكر يأتي من كل ذلك، ولا يأتي كلُّ ذلك من الفكر.
التكرار يعلّم الشطّار:
ليست الأيديولوجيا النازية هي التي بنتْ ألمانيا بين الحربين، ولا هي من تسبّبت بالحرب الثانية. بل إن الظروف التاريخية والاقتصادية لألمانيا بعد معاهدة فرساي، هي التي دفعت إلى التصنيع الحربي والتوسّع الخارجي، ومن هذه الأفعال المادية والأعمال العسكرية نشأ الفكر المعروف اليوم باسم النازية.
وليست الأيديولوجيا الشيوعية هي التي بنت النظام الشمولي في الاتحاد السوفييتي، بل إنّ الظروف التاريخية والاقتصادية لتلك البلاد، وفي ذلك الزمان، هي من أنجبت الشيوعية بصيغتها السوفييتية.
وليس الإسلام هو من بنى دولة الرسول والخلفاء، بل إن دولة الرسول والخلفاء -بكل ظروفها التاريخية والجغرافية والاقتصادية والسياسية- هي التي شكّلت الإسلام بالشكل الذي وصلَ إلينا اليوم.
عذراً التعليقات مغلقة