أمّا أنا فلم أُهزم

ياسر الأطرش8 أغسطس 2018آخر تحديث :
أمّا أنا فلم أُهزم

من طبيعة البشر – أو أغلبهم- أن ينحازوا للغالب ويتبرؤوا من المغلوب، ولو ظاهرياً، إلا أنهم في الحالة السورية استبقوا إعلان النتائج والوصول إلى الخلاصات، ومال كثير منهم إلى من رجحت كفته، فزادوها رجحاناً، وأضعفوا جبهتهم إذ تقافزوا منها إلى الكفة الأخرى، أو وقفوا في منتصف المسافة ناظرين أو جاعلين من أنفسهم وسطاء بين الفريقين ومصلحين لما انكسر، ويرون الآن أنه حان وقت جبره!.

هؤلاء الذين أعلنوا هزيمة مبكرة، بمجرد تخليهم عن مواقعهم، لم يكونوا يوماً متأصلين في الموقف أو مؤسسين عليه، بل راكبيْ أمواج ومتصيّديْ فرص، وصلوا بمهاراتهم الحرباوية إلى دهاليز السياسات والمنظمات الدولية، وكانوا الأنسب لتنفيذ الأجندات وفق المتغيرات، إذ إنهم ليسوا أهل ثوابت من الأساس، وهم من تعوّل عليهم الدول في هكذا مسارات شديدة التقلب والتحول.

فحتى قبل أن يعلن النظام وحلفاؤه “النصر النهائي”، سارع هؤلاء “المعارضون” إلى تحطيم الآمال وتبديد الطموحات وتشويه المآلات، منخرطين في عمليات سياسية جانبية مزقت الصف وأربكت الحسابات وأدخلت اليأس في قلوب لم تعد تحتمل مزيداً من الفجائع.

وعلى استسلام أولئك “القادة” وإعلان هزيمتهم، بنى كثير من الناس خيبتهم، وشعروا بالخذلان بعد جسامة التضحيات، فانكفؤوا واستسلموا لأقدار تقودهم إليها الدول التي أقنعهم الجميع بأنها تتحكم كلياً في مصائرهم، وصاروا ينظرون لأنفسهم على أنهم بيادق على رقعة شطرنج، متناسين عهد الثورة الأول الذي مكّنهم مما كانوا يظنونه أبعد من الخيال، فأخضعوا العالم بأسره لأصواتهم وصيحات حريتهم.. إلا أن الشقة قد بعدت، والدم أغرق كل ذكرى ممكنة.

ومع الوقت، والقتل، والانهزامية، نسي كثير منا مطالب كانت تلهج بها ألسنتنا وقلوبنا ليل نهار، حرية.. كرامة.. إسقاط نظام القتل.. عدالة انتقالية.. لتقتنع من تقول عن نفسها “معارضة” بتعديل دستوري ربما يحمل بعض أعضائها إلى مكاتب الوزراء، ويقنع بعض الناس بالعودة مجللين بخزي الهزيمة إلى “حضن الوطن” على نغمة “مارش” عسكري روسي تؤديه فرقة طائرات الموت.

وفي هذا الوقت بالذات، في لحظة الحقيقة، يبدو لزاماً على كل ثائر ومنحاز لحقه في حياة كريمة عادلة، أن يجدد عهده ويعلن موقفه، فقد بلغ اليأس من النفوس مبلغه، مع دفع العالم بأجمعه السوريين إلى القبول بالواقع والإذعان لنير العبودية المضاعفة، وهو ما سيقبله كثيرون ويرفضه عدد غير قليل من الذين يرون حياتهم في حريتهم وكرامتهم التي خلقهم الله على شرطها، لا في تراب يزيّف شهداءهم، وهواء كلما تنفّسوه استنشقوا معه ذكريات موت أحبتهم بذرات كيماوي الأسد، وبيوت لن تُمسح عن جدرانها وجوه الراحلين، ومدارس ستبقى مقاعدها تسأل عن طلابها الغائبين إلى الأبد..

لا شيء هناك الآن، في سوريا الأسد وإيران وروسيا، يشبه سوريتنا، كل شيء محتل ومغتصب، لذا فإن العودة ستكون أوجع من الغياب، وانتخاب قاتل أطفالنا الذي سيُفرض “بالدم”، سيكون أعظم وقعاً على النفوس من لحظة الفقد الفاجعة..

أما خيار المواصلة في طريق الحق، وإن ضاق وتعرّج وأكدى السائرون فيه، فإنه أيضاً مزروع بأمانات الشهداء، ومحفوف بضحكات أطفال مورقين، وفيه متسع لتنفس حياة كريمة كريمة، أو موت شريف.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل