ذات غربة، بينما تنهال على رأسها أخبار خسارات المدن السورية الواحدة تلو الأخرى، لن يكون المنفى الباريسي سوى سجن بارد يخنقها بجدرانه التي تردد صدى صرخاتها.
كتبوا في تقرير الوفاة أن الفنانة مي سكاف توفيت بسبب جلطة مفاجئة بسبب حدوث انفجار في أحد شرايين الدماغ!
ليس هناك عقل يستوعب أخبار بلاده المثقلة بالألم بينما تنبت وتتضخم داخل رأسه باستمرار، وتضخ يوميا كميات كبيرة من القهر لا تقاس بوحدات الغيغا ولا يمكن فرمتتها بالنسيان!
على مر التاريخ، كان النفي القسري من أقسى العقوبات بسبب آثاره النفسية.. النفي أصبح نعيما وملاذا وحلما ندفع من أجله أثمن ما نملك.
ويأتي الجزء الأكبر من النضوج في الغربة، عندما تصل إلى قناعة قاسية، أنه لا أحد يهتم بك كما تتصور.. وجزء كبير من النضج في فهمنا لعالم السياسة ” التي لا أفهمها بالمناسبة”؛ هو القناعة بأن الأشرار لا يتوقفون، ولا يحبون الاستسلام. ومهما بلغوا من الإجرام عتيا، لن تأتي لحظة اعترافهم بالذنب أو الندم.. ولن يأتي البطل الخارق لينقذنا من شرورهم إلا في الأفلام.
لا يتعب الجلاد داخل الزنازين..
وهناك عن يمينه الكثير من لفائف البلاستيك يلفها حول معصم ضحاياه، وعلى يساره لفائف جديدة من لصقات القصدير يكمم بها أفواههم.
أفكر كثيرا بملامح السجانين، هل هم بشر مثلنا؟ لهم قلوب تنبض وترتجف، وعيون تسجل وتراقب وذكريات تنبش أفكارهم كل ليلة؟
كيف تمت برمجتهم على التعذيب بكل بلادة؟
هل نبالغ عندما نصفهم بالوحوش والمسوخ؟ أتخيل طفولة أحدهم هل انتظر في طابور ليشتري حلوى أو مثلجات؟ هل جلس ذات ليلة مقمرة يرتجف تحت شباك الحبيبة كلما لمحها؟
هل جرب لذة الاحتضان أو فرحة الأبوة أو لوعة الاشتياق؟ ثم تحول فجأة داخل الزنزانة إلى وحش ينتزع إنسانيته كما يخلع قفازا للاستعمال مرة واحدة ثم تنبت مخالبه وأنيابه في ليلة مقمرة دموية ليصبح مستذئبا؟
ليس هناك مجرم وحيد داخل قصر المهاجرين في سوريا ينبغي إسقاط نظامه وحسب، هناك في العالم الموازي داخل أفرع المخابرات الجوية وأقبية صيدنايا وفرع الموت 215 وغيرها، هناك تجلس نسخ مصغرة من الطغاة، يظن أحدهم أنه هو من يأمر وينهى وهو من أمات و أحيا!!
هل أتاك حديث “دائرة النفوس”؟
بعد أن بحث أهل المعتقل مجهول المصير عن ابنهم الغائب في المشافي، في المقابر، والمعتقلات، والمقرات العسكرية، والأماكن التي كانوا يرتادونها، في الشوارع القريبة والبعيدة، في المناطق المألوفة والمريبة.
وجاءهم النبأ الصادم، حيث بدأ يسرب النظام الأنباء المقيتة في سجلات الوفاة داخل أفرع النحس الجديد: دائرة النفوس ..
كتب لهم تاريخ وفاة ولكن بلا شاهدة قبر ولا جثة!
تركوا من بعدهم أبواب الأمل مغلقة، أوصدت جيدا، فلا أثر لهم، لا أثر !!!
يعودون، كنسمة عابرة تتسلى بتحريك رياح الذكريات، وتختفي!
تحت أطلال القمر الدموي، قفا نبكِ على ذكرى ضحايانا، ونأخذ نفسا عميقا، ونعيد ترتيب المساء الحزين بما يليق بخيباتنا المتراكمة ..
ويأتي السؤال: كيف وصلنا إلى هنا؟
نحن الذين سرنا إلى المنافي بكلتا قدمينا، عبرنا البحار وتعايشت جلودنا مع بلاد الثلج وصحاري الحر والغبار مدركين أن خيارنا كان انتحارا… من أجل اقتلاع الطاغية فحسب..
من أجل اقتلاع الطاغية فحسب…
عذراً التعليقات مغلقة